«جحيم» محمد أبوزيد.. التجريب والمكاشفة والخداع البصرى فى مواجهة عادية للعالم

محمد الكفراوي

فى ديوانه الأخير «جحيم» الصادر عن دار روافد. يقدم الشاعر محمد أبوزيد بُعدا جديدا لقصيدة النثر، يتماهى مع طبيعة القصيدة كمساحة حرية للإبداع والتجريب والتخيل، وفى الوقت نفسه ينطلق من ذات الشاعر ومن حضوره الفعلى فى المشهد اليومى، ليعيد قراءة هذا المشهد بطريقة مغايرة، من خلال صور شعرية غاية فى الطرافة والحداثة والابتكار، تقوم بدور مهم كمحفز للخيال على تلقى النص بطريقة مغايرة للمألوف، حتى ينخرط المتلقى ويجد نفسه جزءا من النص. فالصورة الشعرية المركبة التى يقدمها الشاعر فى أكثر من قصيدة هى صورة متكاملة.

من الممكن أن يتخيلها المتلقى ـ القارئ – جزءًا من روتينه اليومى المعتاد. ويتعجب كيف لم ينتبه إليها وهى على مرمى البصر منه. لكن فى الحقيقة هذه الصور تكاد تحمل قدرًا من المخاتلة والخداع الذى يتحرك ببطء داخل النصوص كلها، ليعطى الديوان صورة شبه كلية- تبتعد تماما عن فكرة الوحدة الموضوعية التى اتسمت بها القصيدة العمودية والتفعيلية فى وقت مضى ـ هى خلاصة روح الشاعر وتصوراته عن العالم ورؤيته لهذا العالم من أكثر من منظور، سواء من خلال السخرية أو الجدية أو كسر الإيهام وتحويل الشعر نفسه من إطار للقصيدة إلى متن داخل القصيدة كما فى قصيدة «الحديقة الجوراسية الشعرية» التى تتضمن بحثًا عن نوع جديد من الشعر، ربما سيجد طريقه إلى الحضور واقعيا من خلال كائنات منقرضة هى الديناصورات. يقول الشاعر فى القصيدة: «باستخدام الهرمونات/ والـ DNA/ وكل هذا الـ بلا بلا بلا/ سيعيدون الماموث إلى الحياة/ والديناصور أيضا/ ليس مثل الذى نشاهده/ فى الأفلام/ إنما ديناصور حقيقى/ يقرأ الرواية/ ويشاهد السينما ويحب الشعر/ وكلمة (يحب) هنا نسبية إلى حد كبير».. وهذه الجملة الأخيرة سيكون لها دور البطولة فيما بعد، حيث ستكون المحك ليقوم الديناصور بتصفية حساباته وفقا لذائقته والتهام كل الشعراء الذين لا يعجبونه. ويبدأ هو ـ الديناصور- فى كتابة الشعر. أيضا فإن عناوين القصائد لا تخلو من الطرافة. مثل «مهرجان القراءة للجميع» والمشبعة بالخيال الجامح أيضا: «فى المستقبل/ سيتغير شكل الكتب/ ستكون على هيئة كوب عصير/ كتاب بطعم المانجو/ آخر كالبرقوق/ واحد ينتهى من شفطة واحدة/ وثان يدفعك للتقيؤ». ومن القصائد الطريفة أيضا «رأيتك يا من تجلس على السطح»: «حبيبتى زرافة/ تمد عنقها من البلكونة/ فتأخذ الخبز والبرتقال من البائع فى الشارع/ ترفع رأسها لتنفخ فى السحاب/ تزيحه قليلا/ كى يظللنى وأنا أسير فى الحر».

يتميز «أبوزيد» بالتلقائية والبساطة، وهى منبع التفرد فى ابتكار الصور الشعرية. مثلما نجد فى قصيدة «وبالباقى علكة» أو «كلمة حلوة وكلمتين» التى ينسج فيها صورة أسطورية له مع داليدا. ولا يكف الشاعر عن التجريب. وهى سمة أخرى مميزة فى أعماله، فضلا عن المكاشفة الذاتية من خلال طرح نفسه وتفاصيل البسيطة كجزء من القصائد. فهنا قصيدة تحمل عنوان «الإيميل الشخصى للشاعر». وهناك قصيدة أخرى بعنوان «محمد أبوزيد فى الأدغال». وقصيدة ثالثة بعنوان «ببليوجرافيا» تتحدث عن تفاصيل الشاعر البسيطة كجزء من الصورة الشعرية، فضلا عن قصيدة أعمالى الكاملة، التى يؤنسن فيها الشاعر الكتاب، ليكون الاثنان بمثابة شخص واحد. ورغم حس السخرية والدعابة الذى يتمتع به فى بعض القصائد، إلا أن الجدية والصرامة فى الحديث عن الموت والتعامل مع الموتى تحملان بُعدًا مختلفًا ومغايرًا، وتجعل النصوص مثقلة بروح جديدة أكثر عمقًا مما تبدو عليه للوهلة الأولى.

……………..

*نشر في المصري اليوم

«عنكبوت فى القلب» تقاسيم على لحن الوحدة

د. عزة مازن

«عنكبوت فى القلب» (2019) رواية للشاعر «محمد أبو زيد»، نفث فيها روح شعره، فجاءت امتدادا لمشروعه الإبداعى فى الشعر وتنويعة جديدة على روايته السابقة «أثر النبى» (2010). تحفل الرواية الجديدة باقتباسات من دواوينه السابقة وتستجمع شذرات من شخصية «ميرفت عبد العزيز» من تلك الدواوين. مثلما يتداخل الغرائبى مع الواقعى فى الرواية، يظهر المؤلف بشخصيته الحقيقية ليصف حيرته فيما وراء السرد: «تتقافز الرواية فى رأسى، تُغير على بطل «أثر النبى» فتسرق وحدته ومشاعره فأشعر أنهما وجهان لعملة واحدة، إحداهما تطوير وإعادة كتابة للأخرى، تجمع ميرفت عبد العزيز من دواوينى السابقة، وتلصقها فى لوحة بازل كبيرة أمامى على الحائط.. ».تُستهل الرواية بخمس فقرات سردية تشكل عتبة النص وتستلهم منهج الأسطورة، حيث يلتقى الواقعى بالغرائبى، وكأنما يشحذ ذهن القارئ ليجمع قطع البازل المتناثرة فى نصه ليعرف تلك الشخصية الغرائبية الواقعية: ميرفت عبد العزيز. تفتتح الفقرة الأولى من عتبة النص: «فى البدء لم يكن هناك شىء، فقط، الشمس والقمر والليل والنهار والفصول والرياح والشعر والكتاب وميرفت عبد العزيز…. فى النهاية لم يكن هناك شىء. فقط الحشود، والطريق والسيارة والبنايات وزجاجات المولوتوف والوجوه الشوهاء والهاتف وتأبط شرًا وميرفت…. بين البداية والنهاية حكاية ورواية، رواية تنتهى فى السماء، وحكاية تبدأ فى الأرض».فى ختام الفقرة الأولى يلقى الكاتب بشفرة النص، التى يدركها القارئ قرب نهاية الرواية: «تقول الأسطورة إن الطبيعة غضبت عليه، وأن الله مسخه إنسانًا، يتعذب قلبه كلما تفتحت زهرة على غصن… أو لمح فتاة تشبه ميرفت عبد العزيز تمر من أمام أحد مقاهى شارع شامبليون…. تزيد الأسطورة أنه سيظل هكذا، تائهًا، يدور فى الفراغ بسيارته، مثل مروحة سقف مجنونة. من هنا قررت أن أبدأ هذه الرواية».فى الفقرة الثانية يحكى، متقمصاً راو تاريخى، حكاية «تأبط شرًا» الذى عاش فى سالف الأزمان وفى النهاية «قرر أن يسير ببغاء، يكرر حكايات الرواة، ويسأل كل من يلقاه عن صوته الذى ضاع منه، ويروى انه عاش قرابة الألف وخمسمائة سنة». تلقى عتبة النص ضوءًا على حياة سابقة لكل من المملوك الوحيد الهارب من مذبحة القلعة، وسامى، حفار القبور الذى اضطر لقضاء ليلة فى إحدى المقابر، ولم يعد. فى ثنايا السرد يرافق الثلاثة، الببغاء والمملوك وسامى، بيبو، الشخصية المحورية فى الرواية. تؤهل الفقرات الأربعة للولوج إلى عالم السرد الذى يبدأ بالفصل الأول «فتى». يدور السرد هنا حول «شخص» – نعرف لاحقًا أن اسمه «بيبو» – يعيش وحيدًا فى «غرفة ضيقة ممتلئة بالكتب والجرائد القديمة والطائرات الورقية واللوحات المقلدة على الحائط واسطوانات الأفلام المدمجة». يتمدد الشخص على السرير الوحيد بالغرفة «وعيناه تتأملان سحابة من الرطوبة ناشعة بوضوح فى السقف ترسم عنكبوتًا وفتاة بجناحين». يحلم هذا الشخص بميرفت، مع أنه لا يعرف أحدًا فى الحقيقة بهذا الاسم، ولكنه علق فى ذهنه منذ وجد اسم «ميرفت عبد العزيز» مكتوبًا فى الصفحة الأخيرة من إحدى كراساته عندما كان طفلا فى الصف الرابع الابتدائي. هنا يلقى الكاتب بخيوط السرد متشابكة مستدعيًا شخصية «ميرفت عبد العزيز» من فضاءاته الشعرية فى معظم دواوينه لتسكن عالمه الروائى وتصنع جسرًا بين العالمين. فى الفقرة الثانية «شكر مستحق للمؤلف» يبدأ الكاتب فى لف حبائل عالمه الغرائبى حول القارئ ليلقى به فى مشهد يستدعى أفلام الكارتون: «اكتشف إصابته بالحب بمحض الصدفة…. فتح البلكونة… ألقى بطرف بصره إلى الركن، حيث الكرتونة الملقاة هناك: كان قلبه ينبض وقد اختفى القمح من حوله…. أزاح خيوط بيت العنكبوت، جرب أن يمد يده ليلمسه فى حذر، لم يجد أثرًا للتفحم، الأماكن السوداء أصبحت بلون ورائحة حقل من البرسيم ونبتت الأجزاء المهشمة من جديد». على مقهى بوسط البلد يلتقى «بيبو» بعلاء الدين الذى يفاجأ بأنه يعرف عنه كل شىء، ويستودعه مصباحه أمانة عنده. وفى مطعم فى وسط البلد أيضًا يلتقى بنادلة ترتدى بلوزة زرقاء مرسوم فى طرفها عنكبوت صغير، يتضح لاحقا أن اسمها «ميرفت» وتعشق تربية العناكب. يستغرق «بيبو» فى عوالم سينمائية. فزميلاته فى العمل «كيت وينسلوت» و”أودرى تاتو». يستعير «بيبو» تلك الشخصيات السينمائية ليشركها فى عالمه الخاص: «يحفظ كل أفلام أودرى تاتو، وكلما رآها حدثها عن دور لها فى إحداها، لدرجة أنه كان يكرر لها نفس الكلام… أنقذها هذه المرة زميلها الطبيب الذى جاء مهرولًا ليحدثها عن مريض أصيب بنوبة هستيرية…. مرّت كيت، ملوحة بيدها، فحرص أن يلقى دعابة صغيرة، لكى تطلق ضحكتها العالية، فتبين أسنانها، ويتأكد أن السوس بدأ ينخر فيها، بسبب عدم استجابتها لنصيحته بالتوقف عن التدخين». تختلط الخيوط وتتشابك ويتسرب الشك إلى عقل القارئ «هل يعمل بيبو موظفًا فى مستشفى للأمراض العقلية، أم أنه أحد نزلائه؟».فى طفولته سكنت الأحلام عالمه وبدأ البحث عن «ميرفت عبد العزيز». واعتاد أن يصنع طائرات ورقية يطلقها فى الجو يكتب عليها «يا ميرفت». حاول أن يكتب شيئًا آخر «لكن وجد ذهنه خاليًا تمامًا. فأطلقها، راقبها تحلق بعيدًا بعيدًا، فى اتجاه بلاد لا يعرفها، لكن حتمًا تسكنها ميرفت عبد العزيز». اختار بيبو حياة الوحدة والعزلة منذ طفولته، وتكثفت ملامح عزلته المختارة بعد انتقاله من قريته للدراسة فى القاهرة. يبدو بيبو سعيدًا بوحدته، لأنها تعنى الحرية، أن  «تتحرر من الآخرين، من أسئلتهم، من اقتحامهم تفاصيل حياتك…». تدفعه الوحدة لعوالم غرائبية. ففى طريق عودته من المقابر يقف تحت شجرة سنط منتظرًا حافلة تعيده إلى المنزل، فتخبره الشجرة بأنه ما من أحد جاء إلى هناك منذ زار المقابر آخر مرة. طلب منها أن تنساه ولكن «مالت الشجرة بأغصانها قليلًا عليه، كأنها تهمس له بسر، تخشى أن يسمعه الموتى: – ربما لا يحدث، ربما تصير بطلًا لرواية، ربما تحب نادلة، ربما تبحث أنت عن الناس». منعه وصول الحافلة فى نفس اللحظة من أن يخبر الشجرة كم يعشق وحدته ويكتفى بها، ويستغنى بها عن الآخرين: « الوحدة استغناء. أن تكتفى بنفسك عن الآخرين. أن تصبح أنت كل عالمك». تمر الأيام ويزداد بيبو تقوقعًا حول ذاته، فقرر أن يحمى نفسه من المشاعر: «لذا مد يده إلى صدره، خلع قلبه…. وضعه أمامه على الطاولة… وضع بعض الطين والأسمنت عليه حتى سد مسامه تمامًا، ثم أعاد إغلاق صدره». اكتشف بيبو إصابته بالحب عندما شاهد نادلة المطعم التى ترتدى بلوزة مرسوم عنكبوت فى طرفها. وتزداد دهشته عندما يعرف أن اسمها «ميرفت».هل يحب بيبو وحدته فعلا أم أنه يحتمى بها من الاختلاط بالناس. يبحث عن الآخرين ولكن يبقى على الحافة دون انغماس حقيقى. فهو يحب أن يذهب إلى محطة مصر «كلما أراد أن يختلط بالناس ويشم روائح بؤسهم وحزنهم وحكاياتهم». وفى إحدى المرات كان كل شىء مألوفًا فى المكان، إلا أنه التقى ميرفت فى طريقها إلى الإسكندرية، فسافر معها إلى هناك فى رحلة قصيرة. وتتواصل الأحاديث الهاتفية بينهما وتتكرر اللقاءات غير المدبرة. فيشاهدا عرضًا فى السيرك وفيلما فى أحد دور العرض.أحب بيبو «الصور التى يرسمها لها فى ذهنه يومًا بعد آخر، فتاة وحيدة تعمل فى مطعم، تعزف الأكورديون، تقود دراجة على كورنيش الإسكندرية، تحب الجلوس بجوار النافذة فى القطار…». عندما عجز عن اختيار هدية مناسبة لها فى عيد ميلادها، أهداها فانوس علاء الدين الذى استودعه عنده، ظنا منه أنه لن يلقاه ثانية. وهنا يحضر المؤلف فى النص متماهيًا مع الراوى العليم: « فهو يشعر أنه عندما يعطى المصباح لميرفت سيقدم خدمة للمؤلف لأنه يغلق دائرة نصف قطرها فى السيرك، وستتعقد الحكاية أكثر، وتصبح لديه مبررات درامية لخلق مستويات أخرى من السرد».  وفى نهاية الفصل الأول يتجلى تماهى الراوى العليم مع المؤلف، فيقابل بيبو على مقهى فى وسط البلد.احتل الفصل الأول «فتى» ما يقرب من نصف الرواية ويأتى الفصل الثانى «فتاة» لينقسم بدورة إلى فقرات سردية، ولكنها تُستهل جميعًا باقتباسات من دواوين الكاتب السابقة، فبدا كأنما يجمع شذرات شخصية «ميرفت عبد العزيز» المتناثرة فيها. لاحت الفتاة كأنها القرين الأنثى لبيبو، تقدس الوحدة وتعشق العزلة، ويومئ السرد إلى ذلك بهواية تربيتها للعناكب.تعيش ميرفت حياة غاية فى الروتينية، مثلها مثل بيبو،  ومن ثم تبتدع لنفسها حياة موازية تمتلئ بالغرائب، منها أن تشترك «فى منتديات الغرائب على الإنترنت، وتدمن قراءة روايات أحمد خالد توفيق، ومشاهدة أفلام هيتشكوك وتحفظ مشاهد كاملة من «صمت الحملان»… وتتساءل ميرفت عن شغفها بالعناكب فلا تصل إلى شىء، ولكن  «بينها وبين نفسها تحسد العناكب على دأبها ووحدتها، فدائمًا ما تجد العنكبوت وحيدًا فى أقصى ركن الحجرة».يتماهى المؤلف مع الراوى العليم فى شذرات متناثرة من السرد، يشرك القارئ فى الأحداث والنهايات المحتملة، بل وتقنية الكتابة ذاتها. فيكرس الفصل الثالث «المؤلف» لعملية الكتابة ذاتها، وهنا يتوقف السرد  ويحكى الكاتب عن أحداث واقعية  فى حياته تلتقى بالغرائبى من وحى الخيال، ويذكر أصدقاء له بأسمائهم الحقيقة، ويتطرق إلى تملك تلك الرواية منه حتى أنه لم يستطع منها فكاكًا: « الرواية بالنسبة لى كانت مثل مارى الدموية، نداهة تقول: تعالى إلىَ حتى تنعتق من الهم الذى يسيطر عليك…». ويستطرد الكاتب لحكاية أسطورة مارى الدموية فى التراث الشعبى الأوروبى «أسطورة الشبح الذى يظهر ليؤذيك إن قلت اسمه أمام المرآة عدد مرات معين». تمسك الرواية بتلابيب المؤلف، وكأنما هى شبح مارى الدموية خرج من المرآة: «…خرجت لى من المرآة حاصرتنى فى الغرفة، سكبت النسكافيه على أوراقى، وعطلت المنبه فلم أستيقظ من النوم لأذهب إلى العمل، فلم أعرف كيف أهرب منها ولم أجد أمامى سوى هذا الكيبورد…. ربما أخدع هذه الرواية قليلًا، وقد أكذب عليها، ليس إلا خوفًا من المرايا التى تطاردنى فى كل مكان، مثل عناكب ميرفت».يمعن الواقع والخيال فى التماهى معًا، فلا يكف هاتف المؤلف عن الرنين «ويظهر عليه اسم بيبو». تسكن الرواية مؤلفها فتتخلل ثنايا واقعه. يحاول الكاتب فى هذا الفصل طرح تساؤلات حول ماهية الفن والكتابة وينتهى إلى أن «الفن قادر على جعل الحياة – بحكاياتها الغرائبية والعادية – أكثر جمالًا، والأهم: أكثر احتمالًا». ينتهى الفصل والمؤلف يلمح الشخصية المحورية فى الرواية تدور حول منزله بسيارة متهالكة. ويتساءل: «ما الذى يريده هذا المجنون الذى يدور حول منزلى بسيارة متهالكة”؟فى الفصل الرابع والأخير «سيارة» تحكم خيوط الوحدة شرنقتها حول «بيبو» الذى يجد نفسه فى سيارة ذات تحكم ذاتى، وحيدًا مع الببغاء «تأبط شرًا» والملكين، ليس معه سوى جهاز لاب توب وهاتفه المحمول، وبعض الملابس والطعام، يسير يحيط به الظلام الحالك من كل اتجاه فى نفق مظلم.  يسير تنسيق الفقرات عكسيًا فتبدأ من الفقرة (7) وتنتهى إلى الفقرة (1). يدور بالسيارة أيامًا وشهورًا وسنوات، يعجز أن يجد لحالته مغزى، يحاول الاتصال بالمؤلف، ثم يذهب يلف بالسيارة حول بيته. تمتد الأحاديث الهاتفية بينه وبين ميرفت. ينحصر عالم بيبو فى السيارة، ويبتدع لنفسه داخلها عالمًا موازيًا، يستغنى به عن الحياة خارجها، تعينه على ذلك أحاديث ميرفت الهاتفية التى لا تنقطع. ولكن هل ميرفت شخصية حقيقية فى حياة بيبو، أما أنها قرينه الأنثى الذى يؤنس وحدته ويجعله يسمع صوته؟ هل يملك الإنسان القوة للعيش مكتفيًا بوحدته؟ فجأة يدرك بيبو أن لا أحد على الطرف الآخر، «هل كان يتحدث كل هذا الوقت إلى نفسه؟».ينفرج السرد عن تيمته الرئيسية: «الوحدة» التى تحكم شرنقتها حول «بيبو»، فى أجواء كما الحلم، فلا يستطيع الهروب. يحاول أن يتصل بميرفت، لكنه يعثر على اسم المؤلف «محمد أبو زيد» فى قائمة الاتصالات، فيحاول الاتصال به، ولكنه لا يتلقى ردا على مكالماته، فيقرر الذهاب إلى منزله ، ولكنه يعجز عن الخروج من السيارة. فراح يدور حول المنزل بالسيارة بلا جدوى.ينتهى الفصل الرابع «السيارة» بالعودة إلى الفقرة (1). ينفلت غضب السيارة فتسير «بأقصى سرعتها فى طريق مظلم منزلق ممتلئ بالمطبات، وسط جو عاصف يتناوب بين البرق والرعد والمطر». تتوقف السيارة فجأة ويخرج بيبو منها، وكأنما بابها لم يُفتح من سنوات فعلقت به خيوط العنكبوت. يصادف مطعمًا راقيًا فيدخله، وهناك يطالعه وجه ميرفت تحمله إحدى النادلات، ولكنها لم تحضر إليه رغم انتظاره لها ساعات. «شعر أن… جرحه الذى حاول إغلاقه قد انفتح مرة أخرى لينزف بلا توقف، أن عنكبوتًا مجنونًا داخله يغزل خيوطًا حول أوردته ويزحف على كل جزء منه كى يكبله مرة أخرى. يتجه إلى البار آملا أن يجدها فيجد خيوط العنكبوت تحيط بكل شىء، وفجأة تهب عاصفة قوية تطيح بالمطعم. هرول خارجًا واختفى المطعم تحت العاصفة. ينهض بيبو بصعوبة، بينما تعصف برأسه «أسئلة حياته»، وهى نفسها الأسئلة التى يطرحها السرد وتشغل القارئ من البداية:”لماذا اختار له المؤلف أن يعمل فى مستشفى للمجانين، ما الضرورة الدرامية لذلك؟ هل أراد أن يوحى بجنونه؟ هل يعمل فى المستشفى أم أنه نزيل فيه هل شاهد ميرفت قبل قليل أم لا؟ هل هناك ميرفت أصلًا أم أنها من وحى خياله؟”ينتهى السرد بالسيارة تسير مسرعة فى طرق مغلقة تنفتح أمامها وأخرى مظلمة يشقها ضوء السيارة، تتلاشى كل الأشياء حوله ويشيب شعره ويهرم جسده ويتعرى من ملابسه ولكنه « لا يشعر بعريه، يشعر بملائكيته، بأنه تحول إلى مجرد روح تقود سيارة». فجأة تتفكك السيارة وتتلاشى وتختفى الأشياء من حوله، يصعد جسده إلى أعلى «عيونه مفتوحة بارتياح، على شفتيه ابتسامة، فى ذهنه تتردد جملة وحيدة… – حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية».ربما بهذه الجملة الخاتمة «حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية» يجيب الشاعر محمد أبو زيد على دهشة القارئ ويعتذر له عن متاهة السرد وأسئلته التى ظلت تتكاثف وتتعقد حتى النهاية، فهو شاعر يكتب رواية، ومن ثم جاءت روايته قصيدة مركبة ممتدة تتكاثف فيها الرؤى والإيحاءات، ويختلط الواقعى بالغرائبى فى عالم من الأحلام المتداخلة والمتشابكة…………….نشرتفي مجلة الإذاعة والتلفزيون: تاريخ النشر  ٢٠١٩/٠٨/٢٣

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

جمال القصاص

تبدو رواية «عنكبوت في القلب» للشاعر القاص محمد أبو زيد، بمثابة «مزرعة سردية»، يقلب فيها فضاء تربته الروائية، ما بين أقصى الخرافة والفانتازيا، وأقصى الحلم بعالم واقعي مشدود لفضاء الحرية والحب، كما يختبر في غبار هذه المزرعة شخوصه، عبر سيولة زمنية ومكانية متنوعة تتشكل تحت سقفها صراعاتهم الإنسانية الصغيرة، مع ذواتهم وعالمهم المحيط، وسط وجود محفوف دوماً بمغامرات لا تكف عن التجريب وابتكار حيل وألاعيب مغوية، تصل أحياناً إلى الضجر من الكتابة نفسها بوصفها لعبة محكومة بأطر ومواضعات ذات طبيعة خاصة، وخيارات حاسمة تتعلق بماهية النوع الأدبي، وهو ما لا يكترث به، محاولاً إيجاد حالة من التفاعل، يتبادل فيها الكاتب وأبطاله والقارئ الأدوار والأقنعة على مسرح النص، ما يجعله يقترب من المفاهيم والأجناس الأدبية الجديدة، التي أفرزتها التكنولوجيا بتطورها الهائل، وأثرت على شكل الكتابة القصصية والروائية على نحو خاص.
يمهد الكاتب لعالمه بومضات سردية تتكشف من خلالها عوالم شخوصه الأثيرة وطبيعتهم: «سامي» حفار القبور، و«المملوك» الوحيد الذي فر من مذبحة القلعة الشهيرة إبان حكم محمد على، و«تأبط شراً» أحد الشعراء الصعاليك المرموقين، والحكايات الطريفة المتضاربة التي تروى عن سر تسميته بهذا الاسم، في محاولة ضمنية لموازاة عالمه الروائي بالصعلكة، والتي يرى أن أهم ما يميزها: «أن تكون عدّاءً في صحراء ممتدة، لا يوجد لها خط نهاية للسباق، النهاية الوحيدة أن تلمس سطح السماء، أو تصل إلى البحر، ما لم تمت قبل بلوغ شاطئه».
إذن ثمة وعي مسبق باللعبة الروائية، ينهض أساساً على فكرة الانفصال – الاتصال، فالشخوص بمحمولاتها ورموزها تظهر لتختفي، ثم تعاود الكرة من جديد، كما أن الكاتب نفسه، يتدخل في أشواط معينة من السياق، ليعدل مسار اللعبة ويشارك فيها، وفق سلطته كراوٍ عليم، بل يهدد بالانتقام والسخرية من أبطاله، لكنه في داخله يحنو عليهم. وينجح تحت غواية هذه الوعي في اللعب معهم، ووضعهم في إطارات محددة، حتى أنه يجردهم من طبيعتهم البشرية، فيصير «سامي» و«المملوك» ملاكين صغيرين، يقبعان فوق كتفيه عند الضرورة، وفي لحظات مصيرية، ليحفظا لوجوده المادي الواقعي نوعاً من التوازن، حتى لا يسقط في الهوة ما بين الوهم والحقيقة، كما يصير تأبط شراً ببغاءً، يراقب الحكاية، ويعلق عليها أحياناً.
في مقابل ذلك، تظل علاقة بطلي الرواية «بيبو» و«ميرفت» تراوح ما بين الحضور والغياب، فرغم ولعه بها إلى حد الجنون أحياناً، إلا أنهما لا يقعان في الحب، بل يتحايلان عليه، كأنه أصبح جزءاً من لعبة كلاهما يمارسها على طريقته الخاصة، كما أن نقاط التشابه بينهما، من حيث النشأة في بيئة قروية، وإيثارهما العيش على هامش الحياة، وعدم التورط فيها، لا تفرز سوى النزوع إلى العزلة والوحدة، لكنها عزلة هشة تشبه بيت العنكبوت، إذن فلتكن اللعبة فضاءً خاصاً للتسلية وإزجاء وقت الفراغ.
فالبطل الذي يرتكب أعمالاً خارقة للعادة، ابن مدينة البرلس الساحلية المطلة على البحر (بوسط دلتا مصر)، يرفض حياة البحر مثل أفراد عائلته، ويقرر السفر إلى القاهرة ليكمل تعليمه الجامعي، ويلتحق بالعمل بمستشفى الأمراض العقلية والعصبية، بينما يحاصره قلبه ويصبح عبئاً على جسده، فيشق صدره وينزعه منه ببساطة شديدة، فمرة يضعه بكرتونة قديمة بالشرفة، بعد أن غمره في برطمان به بعض الماء، ونثر حوله حبات مبللة من القمح، ثم بعد أيام وبعد أن عشش العنكبوت على الكرتونة يعيده إلى موضعه بصدره، ومرة يفكر أن يلقيه في صندوق قمامة، لكنه يخشى أن يعثر عليه شرطي، فيتهم بجريمة القتل العمد، ومرة يحاصره بغلالة من الطين والإسمنت، يضعها على صدره، حتى يظل قابعاً في الداخل، لا يتمدد، ولا يشكل نتوءاً يخل بوضعية جسده.
و«ميرفت» وحيدة والديها الراحلين، خريجة كلية التجارة، لا تجد وسيلة لقتل العزلة سوى اصطياد أعشاش العنكبوت من أي مكان، ووضعها في زجاجات بلاستيكية ورعايتها، كأنها تعويض عن حالة اليتم التي تعيشها.
تقبع ميرفت في ذاكرة السرد كبطلة أسيرة للكاتب عاشت كرمز ودلالة في كتبه الشعرية، وها هي تجرب الحياة داخل نمط آخر من الكتابة أقل تكثيفاً واختزالاً، يسمح لها بالتمدد والغوص أكثر، سواءً في داخلها أو عبر الواقع المعيش. حيث تراقب بفطنة وجوهها المتعددة التي أدمنتها، فعلاوة عن كونها صيادة عنكبوت، فهي عازفة أكورديون، مدمنة عمل في المطاعم، لصة البنسات الملونة، حبذا الأزرق منها، مدمنة الأشياء الغريبة، حتى أنها أنشأت موقعاً على «فيسبوك» سمته «أشياء غريبة». كما أنها خلال عملها بالمطاعم، الذي لا يتجاوز ثلاثة أشهر في كل مطعم لم تكن تهتم بأي شيء آخر سوى أنها، وكما يقول الراوي (ص 116) واصفاً المشهد على هذه النحو: «لا يلفت انتباهها في الزبائن سوى جواربهم، بعد أن تقدم الطعام للزبون، تقف في ركن بعيد، وتتسلل نظراتها على الأرض، تنظر إلى الأحذية، ومن ورائها الجوارب. تعرف الآن كل أنواعها، لدرجة أنه من الممكن أن تؤلف موسوعة عنها تحمل اسم «المآرب في علم الجوارب»: هذا جوربه مخطط، وهذا قصير، وهذا رائحته تطارد المارة في الشارع، وهذا يرتدي صندلاً. آخر زبون لفت انتباهها بشدة، حتى إنها شعرت بالتعاطف معه، كان يرتدي جورباً من لونين مختلفين.
تتنوع هذه المطاردة بين بيبو وقلبه المتمرد وطائراته الورقية الملونة على مدار الرواية، لكنه في كل مرة تحاصره الهواجس والأسئلة نفسها، وكما يقول على لسان الراوي السارد: «سعادته بعودة قلبه لم تمنعه من السؤال: نعم عاد قلبي، لكني لم أحب أحداً بعد. أليس من المفترض أن يعود قلبي عندما أشعر بالحب؟ أم أنه يعود أولاً ثم أشعر بالحب بعد ذلك؟ شعر أن الأمر يشبه سؤال الدجاجة والبيضة، أيهما أولاً، فكف عن التفكير ورفع صوته منادياً عم ممدوح كي يحضر له شاياً بالحليب».
يحاول الكاتب أن يكسر نمطية فضائه المتخيل، وسد فجوة تناقضاته، وذلك باللجوء إلى علامات وإشارات تهكمية خاطفة ذات مغزى سياسي واجتماعي، كما يلجأ لتناصات بينية يذكر فيها أسماء بعض أصدقائه من الكُتّاب والكاتبات، في مشاهد تتعلق بعملية كتابة الرواية، وتوسيع آفاق نصه السردي، وإضفاء قدر من الحيوية على مساراته وغرابة بطله «بيبو»، الذي أصبح مدمناً للمشي في أحذية الآخرين القديمة، فيفتش عنها في سلال القمامة، ويتوهم أنها تقوده إلى معرفة سيرة حياة أصحابها، سواء كانوا موتى أو أحياء، تيمناً بعبارة التقطها من الممثل الأميركي جريجوري بيك في أحد أفلامه تقول: «إذا أردت أن تعرف رجلاً امش في حذائه».
تمتد الغرابة بتراوحات متباينة إلى الشخوص الأخرى، سواء المتخيلة، المستدعاة من فضاء السينما العالمية وأفلامها الشهيرة، بخاصة شخصية «سنو وايت» أحد أشهر أبطال «والت ديزني» في فيلمه الكرتوني الشهير «سنو وايت والأقزام السبعة» فهي صديقة بيبو وزميلته بالجامعة، يرافقها في رحلة جامعية إلى أسوان، كما تذهب معه إلى السينما، وتسدي إليه نصائح الحب لعلاج قلبه الراكد في مكانه، حتى لا يصبح مثل قلبها التي تعاني من مزق ونتف تتساقط منه يومياً حول سريرها. كذلك الممثلتان الفرنسية أودري تاتو، بطلة فيلم «شيفرة دافنشي»، والبريطانية كيت وينسلت، بطلة فيلم «تايتنك»، اللتان يتعامل معهما بيبو، باعتبارهما زميلتين له في العمل، يتبادل معهما الدعابة والمزاح، كما يلتقي بهما على مقاهي وسط البلد. أيضاً هناك أصدقاؤه بالعمل: عبد الله هدهد، الذي يذهب إلى العمل طائراً متفادياً الزحام و«إتش» صاحب «جمعية جامعي أعقاب السجائر الخيرية»، وعلاء الدين، صاحب «الفانوس السحري»، وغيرهم المسكنون، بحالة من خفة الغرابة وألفتها.
يقبض الكاتب الراوي على شخوصه وكائناته، ويحركها من خلف ستار الحكي كدمي من «الماريونت»، لكن بعضها يصمد في اللعبة ويصعد، وبعضها يتحول إلى نتوء في جسد النص، بينما تبدو الأشياء نفسها، وكأنها ظلال لوجود شبحي داخل إطار محدد. برزت فيه الهيمنة للراوي السارد، على حساب حيوات المروي عنهم. ما يجعلنا إزاء لعبة سردية مشدودة أكثر لألاعيب الميديا.
لقد راهن أبو زيد في هذه الرواية على أقصى طاقات التجريب والمغامرة، لكن أشياء كثيرة مهمة لم يستطع أن يستثمرها، بشكل أكثر فعالية، فمثلاً لم نر نمواً درامياً للعزلة، سواء في إثارة مشاغل الجسد وحيواته الحميمة، خصوصاً في حياة بطلي الرواية اللذين اختارا العزلة موقفاً من الوجود، وفي التعاطي مع أسئلة الوجود بمفهوم وروح أبعد من تداعيات لعبة ترنحت ما بين التشابه والتكرار في النص.

…………………

*نشر في جريدة الشرق الأوسط

«عنكبوت فى القلب».. جماليات الكوميكس

حسن عبدالموجود

لا تقدم هذه الرواية “عنكبوت فى القلب” لمحمد أبوزيد، عالماً عادياً. هذه رواية عن أشخاص لا نعرفهم، وكائنات لا نراها، كائنات تسير معنا فى نفس الشوارع، وتسكن معنا نفس العمارات، وتأكل معنا فى نفس المطاعم، لكنها، مع هذا، لا تشبهنا، وهى منغلقة، وفى الأغلب، تعيش داخل مدن مسحورة تخصُّها، لكننا نملك معرفة ولو بسيطة بهذه الكائنات، فربما اصطدمنا بها فى الكتب الخرافية، وربما سقطت علينا من شاشة سينما، بينما نحن مشغولون بمتابعة أطيافها وظلالها الرائعة، وهكذا فإن أول ملحوظة يمكن الخروج بها عن تلك الرواية أنها تصور عالم بشر غير عاديين، والبطل الرئيسى، على سبيل المثال، بيبو، يستطيع إخراج قلبه من صدره ووضعه محاطاً بالقمح فى البلكونة، مثل جيم كارى فى فيلم “القناع”. لقد استمع بيبو إلى نصيحة “الطبيبة المريضة” محاولاً بكل الطرق أن يصل إلى تحقيق حلمه، ولكن ما هو حلمه؟ هل الحب؟ كل شىء يدل على أن حبه الأول والأخير هو الوحدة لا النساء، لكننا، على أية حال، مدفوعون دفعاً لتصديق ما يقوله لنا بيبو، أو محمد أبوزيد، وأنت لا تعرف فعلاً من كتب هذه الرواية؟ أو من بطلها؟ هل هو بيبو؟ أم محمد أبوزيد؟ هل ميرفت عبدالعزيز أم بيبو؟ لقد وقع نظر بيبو على ميرفت ذات مرة، والرواية تقول إنهما التقيا، ولكنها كذلك تدفعنا للشك فى هذا الأمر، وبالتالى ربما تكون كل الأحداث خيالية، ولا تدور إلا فى ذهن أبطالها، أو فى عقل مؤلفها، وأنتم لو طالعتم دواوين محمد أبوزيد ستجدون أن المشترك بينها هو اسم ميرفت عبدالعزيز، ميرفت الشخصية الأسطورية التى يبحث عنها المؤلف فى كل عمل له، ثم إنه هنا يعطى لنفسه الحق فى “ظهور خاص” كما يفعل السبكى فى أفلامه، حيث يظهر أبوزيد فى تلك الرواية بشحمه ولحمه وهيئته واسمه مزاحماً الأبطال، وربما يدخل معهم “خناقات شوارع”، ولأنه الخالق، وله الهيمنة الكبرى فإنه أعطى لنفسه الحق فى عقابهم، عاقب بيبو، مثلاً، ووضعه فى متاهة ألعاب لانهائية.

والرواية بهذا الشكل تنسف كل الأشكال المتعارف عليها، ويختلط فيها الخيالى بالواقعى، وتزاحم فيها تيمة التأليف تيمة الفانتازيا، وتتحرك فيها ممثلات عالميات “جنافر”، و”كيتات”، وهذان اشتقاقان لممثلات اسمهن “جنيفر” أو “كيت”، بيبو يحب “الجنافر”، جنيفر لورانس، وجنيفر لوبيز، وجنيفر أنيستون، وجنيفر جارنر وجنيفر جيسون لى، أما زميله إتش فمستعد للموت فداء لـ”الكيتات”، كيت وينسلت وكيت هيدسون وكيت بلانشيت وكيت بيكينسيل وكيت ميدلتون، حتى كيت هارتيجنون، والغريب أن الغلبة كانت فى الرواية، للكيتات، مع أن البطل هو بيبو، ولكن لا تنسوا أبداً الجميلة جداً أودرى تاتو، التى ستستمر دائماً باعتبارها صديقة لبيبو. فى هذا الرواية كذلك، يحول أبوزيد أصدقاءه الكتَّاب والفنانين إلى أبطال، هانى عبدالمريد، وسحر عبدالله، والطاهر شرقاوى، وإذا شعرت بأنهم سيعطون أُلفة أو لمحة واقعية للعمل فهذا ضمن أوهام كثيرة تنسفها الرواية ببساطة، حيث ستفاجأ مثلاً مع أول ذكر لسحر عبدالله بأنه تريد صناعة حصان من الموسيقى، وكان من السهل دمج هؤلاء الأصدقاء فى تلك الرواية وكائناتها، فهم امتداد لقماشتها، أو على الأقل يشبهونها.

الرواية تنسف كل شىء، ولكن لتقريب حالتها، للمس روحها، يمكن القول، إن جاز الأمر، إنها أقرب إلى فن الكوميكس، وجمالياته، حيث ذلك الجنوح الشديد إلى المبالغة، أو رسم الشخصيات بطريقة كارتونية، أو باستعارة خلفية لعبة السيارات التى كنا نلعبها فى طفولتنا، حيث نمر من مستوى إلى آخر، وفى كل مستوى تتغير الخلفية، من مدينة، إلى صحراء، إلى بحر، إلى غابة، إلخ.. وكذلك السخرية، فلا أحد ينجو فى العمل منها، لا المؤلف ولا أبطاله، إنه يُشبِّه نفسه بالسبكى، فى فصل صغير بعنوان “ظهور خاص”، ثم يسخر من السبكى كذلك فى هامش: “الحاج السبكى (1962ـ ….): مؤلف ومصور ومنتج ورسام وعازف جاز، مخرج سينمائى مشهور، حصل على ثلاث ترشيحات للأوسكار، حاز السعفة الذهبية بمهرجان كان عن مجمل أعماله، وتوجد نجمة باسمه فى ممر النجوم بهوليود، يعتبره النقاد من أهم علامات السينما العالمية، وله فيلمان فى قائمة أهم مائة فيلم حول العالم، ولد فى بولندا لأبوين يعملان فى مهنة التعليم، قبل أن ينتقل إلى كاليفورنيا، أغرم بالسينما منذ صغره، وبدأ حياته الفنية بمشاهد بسيطة فى الجزء الثانى من فيلم العراب، ظهوره الاستثنائى فى فيلم (أيظن) رشحه لأول أوسكار مساعد فى حياته، ثم توالت أعماله وترشيحاته للجوائز، يعد أول من أدخل (التوك توك) فى السينما المصرية”.

ماذا تريد هذه الرواية أن تقوله؟ هل هى مهتمة فعلاً بتتبع مسار قصة حب عظيمة بين بيبو وميرفت؟ أم أنها مجلد أو ألبوم صور لكل شىء يخص محمد أبوزيد؟ أصدقاؤه، ممثلاته المفضلات، الروايات التى يحبها؟ الشخصيات الخيالية التى شكلت وجدانه؟ الكائنات التى تسحره، علاء الدين ومصباحه السحرى؟ سنووايت والأسماك، لا تنسوا الأسماك لأنها تكاد أن تقفز، من سطور الكتاب، باتجاهنا وتضربنا بزعانفها مُخلفةً قشورها على ملابسنا؟ كل شخص يمكنه أن يجيب كما يحلو له، ولكن محمد أبوزيد سيسارع لنسف تصوراتك عن كل شىء. إذا تعلق الأمر مثلاً بعلاء الدين، سيقول لك ساخراً بعد لحظة إن الجنى اختنق داخل الفانوس، وكذلك لن تعرف أبداً هل الفانوس الذى تحتفظ به ميرفت عبدالعزيز منحه لها بيبو كأمانة بعد أن تسلمه من علاء الدين، أم أنه فانوس عادى يخصها؟ ما الحكاية أصلاً؟ لن تصل إلى إجابة يقينية.

تقول الطبيبة لبيبو “أخرج قلبك، ثم ضعه فى كرتونة صغيرة، واتركه فى البلكونة فى رعاية الشمس. ضع له القمح والذرة والماء كل يوم، حتى ينمو مجدداً، بعد فترة ستصاب بالحب، ويعود قلبك مجدداً”، ومن هذه العبارات نعرف أن بيبو يبحث عن الحب ولا يجده، أو يجده ويفر منه، يجده فى هيئة ميرفت عبدالعزيز، الفتاة الأكثر غرابة منه، إنها فتاة لا ترفع نظرها عن الأرض حيث تراقب جوارب المارة، أو جوارب الزبائن فى مطاعم تعمل بها، فتاة مغرمة بالعناكب، وقد رآها بيبو للمرة الأولى وهى ترتدى بلوزة فى طرفها عنكبوت، لم تحب ميرفت شيئاً فى حياتها مثل العناكب والقطط الضالة والتماسيح وآثار الأقدام الحافية على الرمال ومشاهدة الكتاكيت الصغيرة، وبنسات الشعر الملونة.

يكتب أبوزيد فى ديوانه “قوم جلوس حولهم ماء عنها: “ليس لديها مرآة فى البيت ولم يرها أحد، لا تركب الطائرات ولا حافلات العامة، لا تطير ولا تسير”، ولا تندهشوا أن كل حرف يتعلق بهذه الفتاة غريب، كما أن كل حرف يتعلق بغيرها غريب كذلك، انظروا. إنها تملك إصبعاً زائداً فى قدمها، وهناك حكاية تقول إنها جاءت من قرية فقيرة فى وسط الصعيد، لعائلة كل أبنائها يملكون 6 أصابع فى القدم اليمنى، وليست هذه هى الحكاية الوحيدة عنها، فحكاية ثانية تتعلق بقلادة على شكل علم فلسطين تعلقها فى رقبتها، تؤكد أنها فلسطينية، أبوها تزوج أمها ذات الأصول المغربية، عندما كان يدرس فى جامعة القاهرة، ثم عاد إلى رام الله، وتظاهر ضد أوسلو، واختار أن يكون قريباً من المسجد الأقصى، أما الحكاية الثالثة فعن وحمة باهتة أسفل كتفها لسمكة لا تكاد تبين: و”فى الحكايات الثلاث لا يوجد والدها، تعرف أنها فقدته بطريقة ما، وأنها حزنت عليه، لكنها لا تعرف كيف، تماماً كما لا تعرف أى واحدة هى: هل هى ميرفت الجنوبية التى رفضت الزواج من ابن عمها، أم ميرفت الفلسطينية التى حذرتها أمها من الحب، أم ميرفت الإسكندرانية ابنة الطبقة المتوسطة، التى تجيد استخدام الآلة الكاتبة؟”.

يكتب عنها أبوزيد كذلك فى ديوانه “مديح الغابة”: “مذهلة كاكتشاف الشاى بالحليب، تفتح فمها تأهباً لأغنية طويلة، ترشق صمتها فى الأوركسترا فتبكيها، كلما رآها العابرون صمتوا، كلما شافها البحر قال: كنا طرائق قدداً”، وقد “جربت ميرفت العمل فى مطاعم كثيرة، كل أنواع المطاعم التى يمكن أن تخطر بالبال، محلات الفول والطعمية الرخيصة فى السيدة زينب، مطاعم البيتزا والباستا الغالية فى سيتى ستارز، محلات الفشة والممبار فى إمبابة، محلات الوجبات السريعة فى شارع جامعة الدول العربية بالمهندسين، محلات الكشرى بمدينة نصر، كوستا وسيلانترو فى مصر الجديدة”، و”لم تستفد ميرفت شيئاً من كل هذه المطاعم سوى أنها أصبحت تقدم وصفات طعام مجاناً للفتيات وربات المنازل على منتدى فتكات”، ولأنها شخصية خارجة من كتاب كوميكس كان لا بد أن يذهلها فيلم “المنتقمون the avengers”، وهى كذلك يجب أن تكون مستقبلاً واحدة من شخصيات مارفل، ربما أنثى “سبايدرمان”، فها هى تعلن عن وقوعها فى غرام “الأرملة السوداء” سكارليت جوهانسون، وتشعر أنها تشبهها.

يترك أبوزيد الرواية جانباً ليقلِّب فى جوجل، ليقرأ فى مرجع، ليشاهد فيلم سينما، ليحكى لنا شيئاً، ليقول لنا معلومة، والعمل مزدحم بتلك المعلومات، لكنها معلومات ليست ناتئة عن هذا العالم الذى يرسمه ببراعة، وعلى طريقة الكوميكس، تستطيع أن ترى الفقاعات البيضاء الخارجة من رأس ميرفت عبدالعزيز إلى بالونة الكلام، فنعرف معها ماذا تقرأ، أو ما الذى أجبرها عليه أبوزيد: “الأرملة السوداء هى أحد أنواع العناكب المشهورة بسمها المؤثر على الأعصاب. هى نوع كبير الحجم يتواجد فى جميع أنحاء العالم ويرتبط عادة بالبيئات الحضرية أو المناطق الزراعية، يمكن للإناث أن تعيش حتى 5 سنوات بينما تكون حياة الذكر أقصر بكثير، وعلى خلاف الاعتقاد السائد، من النادر أن تفترس الأنثى الذكر بعد التزاوج. اسم عنكبوت الأرملة السوداء شائع الاستخدام عندما يشار إلى الثلاثة أنواع الأمريكية الشمالية والتى تتميز بألوانها الداكنة. ويُعرف منها 31 نوعاً مثل العين الحمراء، والأرملة البنية أو الأرملة الفضية، والأرملة الحمراء، وفى جنوب أفريقيا تسمى الأرملة السوداء بالأرملة ذات الإزرار”، وبالتالى عليك أن تفكر، أى أنثى عنكبوت هى ميرفت؟ وهل ستفترس بيبو إن أتيحت لها الفرصة؟ لا، فى الأغلب لن يدعهما أبوزيد يفعلان، لأنه مشغول بنفسه هو، وبعالمه هو، وبكل ما يحبه كذلك، وليس من ضمنه، كتابة قصة حب رومانسية، وهو المعروف بسخريته الدائمة من الرومانسية، وربما يكون أبوزيد مشغولاً بإبعاد بيبو عن سكته، ليحلو له الجو مع ميرفت.

هذه هى ميرفت وهذا هو المؤلف فماذا عن بيبو نفسه؟ ماذا عن هواجسه وأحلامه؟ لقد خلقه أبوزيد غرائبياً، شنيعاً فى غرائبيته، ومزعجاً فى تعامله مع العالم، فلا شىء يريحه، وجود البشر أنفسهم هو أكبر مصدر للقلق بالنسبة له، والوحدة مبتغاه، الوحدة، كما يفكر، ليست ترفاً، ليست تكبراً، الوحدة استغناء. أن تكتفى بنفسك عن الآخرين. وأن تصبح أنت كل عالمك، ويسأل: “هل الوحدة تساوى الحرية؟” ويجيب: “نعم ما دمت تتحرر من الآخرين، من أسئلتهم، من اقتحامهم تفاصيل حياتك، من سخافاتهم اليومية بصباح الخير، وصباح النور”، وبيبو “سعيد لأن ملامحه عادية بلا شىء مميز”، ولأن “وجهه لا يَعلق فى ذاكرة أحد”. تخيلوا معى ماذا يعنى الاستقرار بالنسبة له؟ إنه مجرد “شقة صغيرة إيجار قديم بجوار مسجد السلطان حسن، وعمل روتينى، ووحدته الأثيرة”، والسؤال لماذا يبحث بيبو عن الحب؟ أليس من الأفضل له أن يتسلى مع الوحوش الخيالية التى تمرح حوله طوال الوقت، أو مع الأرق الذى يطرق بابه، مندفعاً إلى الداخل بملامحه الزرقاء، ليجلس قبالة التلفزيون مستمتعاً بمسرحية ما، تاركاً بيبو غارقاً فى خيالاته.

لقد قضى بيبو، الطفل، كذلك فى غرفته الصغيرة أياماً يصنع طائرات ورقية، وقد أراد جده أن يصبح قرصاناً، بينما أرادت أمه أن يفتح مطعم سمك يسميه “ابن حميدو”، وخالته أرادته “قبطاناً بحرياً” أما أبوه فتمنى أن يراه طبيبا، يعمل فى مستشفى نهاراً وفى عيادته ليلاً، ما دام قد فشل فى تعلم حرفة البحر: “ومع ذلك حقق حلم والده جزئياً، ورأى فرحة مكسورة فى عينيه عندما أخبره أنه سيعمل فى وظيفة إدارية بمستشفى حكومى بعد عامين من تخرجه وبيع ثلاثة قراريط لدفع ثمنها رشوة كى يحصل على الوظيفة، لكنه ظل يشعر بالذنب بعد أن مات والده باللوكيميا، فربما لو صار طبيباً لاستطاع إنقاذه”، وبيبو يعيش وسط كائنات تشبهه، “واو” يراسل موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ويشكو من “الكوسة” فى المؤسسات العالمية، ومنها الموسوعة، حيث لا يرد المسؤولون فيها على مراسلاته، ولكنهم محقون بكل تأكيد، فـ”واو” يصر على تحطيم أرقام قياسية غير ذات مغزى، وعلى سبيل المثال يذهب كل يوم إلى العمل، وهى يقود سيارته إلى الخلف من بيته حتى يصل إلى المستشفى.

بيبو أحب أخيراً مديره، بعد أن أجرى عملية لاستئصال الشتائم من حلقه، وتحول بعدها إلى شخص آخر لا يُسمع صوته إلا نادراً، ولا تنسوا.. هناك عبد الله هدهد، الذى يتابع كل ما يحدث دون أن يعلق، و”عندما يعلو الصخب قليلاً، يقوم إتش ويضع له ساندوتش حشرات مجففة فى طبق أمامه”، وقد استمع بيبو كذلك إلى مثلٍ قديم على لسان جريجورى بيك يقول “أنت لن تعرف الرجل حقاً حتى تمشى فى حذائه”، وبدأ يجوب الشوارع مقلباً النفايات باحثاً عن الأحذية ويرتديها، متخيلاً أنها ستقوده إلى أصحابها الأصليين، وهكذا: “أصبح المشى، سواء فى حذائه أو فى أحذية الآخرين، رفيق وحدته لسنوات”. ليس هذا هو كل ما فى جعبة خيالات بيبو، فبخلاف أنه يجرى أحاديث بانتظام مع علاء الدين صاحب الفانوس السحرى، فهو كذلك على علاقة متينة بـ”سنووايت”، وقد لمست قلبه فشعر أنه ينسحب من مكانه، وعرف، لمرة يبدو أنها لن تكون الأخيرة، أن عليه الوقوع فى حب شخص ما، وبالطبع لن تكون سنووايت، ليس لأنها شخصية خيالية، بل لأنها تحب الأقزام كما يقول التاريخ، وبيبو كذلك يجد متعته فى اصطياد الصراصير، هل أنتم مندهشون؟ أليست حبيبته تقوم باللهو مع العناكب؟ هل هو أقل منها مثلاً؟ هذه الصراصير تضايقه فى وحدته، وعليه أن يقتلها، وقد نصحته زميلته فى العمل أودرى تاتو أن يشترى سلحفاة لتساعده فى تطفيشها، وهو أيضاً يتحدث مع “تأبط شراً”، الببغاء الذى يتحول بامتداد الرواية إلى بطل فاعل ومهم، ربما بقدر أهمية بيبو وميرفت، وتسلية بيبو هى السخرية، وتضخيم ملامح الناس، إذا ابتسمت بائعة تذاكر السينما ستنكشف أسنانها المكسوّة بالروج الأحمر الفاقع، وبالتالى سيراها كمن انتهى من شرب نصف لتر من الدماء، وجزء من تسليته كذلك هى الأسئلة، أسئلة المصير فى الأغلب: “هل يفتقده أحد فى الخارج؟ هل سينشر إتش صورته فى صفحة (خرج ولم يعد) بجريدة الجمهورية؟ هل سيبحث عنه علاء الدين؟ هل سيضع عم ممدوح كوب شاى بالحليب على منضدة فارغة، كل يوم فى انتظاره، ثم يقف دقيقة حداداً”، إنه يسأل هذه الأسئلة، دائماً وكأنه مات، أو ذهب إلى مكان لا رجوع منه، وقد فقد الثقة فى نفسه للأبد، وكذلك فى المؤلف النزق محمد أبوزيد، الذى يبدو أنه لا يكف عن التجريب، التجريب داخل العمل الواحد نفسه، والقفز ما بين الشعر والسرد، والتحكم فى مصائر هذه الكائنات الهشة، مثل بيبو، المسكين الذى يبدو أن سيدرك متأخراً جداً المصيبة التى وقع فيها، فقد أحب نفس الشخصية التى أحبها المؤلف، وبالتالى كان يجب الخلاص منه إلى الأبد، ولأن المؤلف طيب فلم يبتكر ميتة قاسية له، لم يُسقطه فى بركان أو محيط، لم تنهشه سمكة قرش ولم يبتلعه حوت، لم يدفنه حياً، ولم يحرقه، فقط حقق له حلمه بأن يكون وحيداً وتركه فى قلب المتاهة.

……………

*نشر في أخبار الأدب

“عنكبوت فى القلب”: أن تنظر الرواية فى عين مؤلفها.

محمد الفخراني

أن يكون لدى الكاتب أفكار، وتصورات، عن الكتابة، الفن، ورؤية لما يمكن أن يقدِّماه للعالم، والحياة، ويُحوِّل هذه الأفكار إلى عمل أدبى، أو فنى، هذا ما فعله “محمد أبو زيد” فى روايته الجديدة “عنكبوت فى القلب”.

تتكون الرواية بشكل أساسى من أربعة فصول: (فتى– فتاة– مؤلف- سيارة)، وقبل هذه الفصول، هناك أربع سرديات، أو فصول قصيرة، تحمل أرقامًا لاتينية، نرى فيها شخصيات، ستعاود الظهور فى الفصل الأخير من الرواية مع تَغيُّر فى طبيعتها.

فى الفصل الثالث: “مؤلف”، يُقدِّم الكاتب جانبًا من رؤيته للكتابة، والفن، ثم يُحوِّل هذه الرؤية فى الفصول الأخرى، إلى حكايات وشخصيات، تتجاوز الحبكة التقليدية، وما يسمى نقاط اضاءة، سيهتم الكاتب بمسح النقاط، أو أنه يضع نقاطًا للعب، ليجعل روايته مساحة من ماء غير مستقر، تتخلله دوامات صغيرة.

يقول الكاتب فى صفحة 161: “الفنان عندما يُقدِّم فنًا فإنه يضيف إلى الواقع تلك اللمسة السحرية التى تضيف إليه روحًا، وتجعله مختلفًا عن الاعتيادى، وتُحوِّله من حكاية اعتيادية إلى كرة ثلج من الأسئلة تتدحرج على الجميع بحثًا عن الإجابة”، فنراه يُحوِّل حياة الشخصيتين الرئيستين فى روايته، “بيبو”، و”ميرڤت عبد العزيز”، من حياة عادية إلى حياة ممسوسة بغرابة لطيفة، كأنما لمستها عصا الفن السحرية، “بيبو” الشاب القادم من إحدى قرى كفر الشيخ، ليدرس فى القاهرة، ثم يحصل على وظيفة إدارية بمستشفى حكومى، سيعيش أثناء المرحلة الجامعية قصة حب مع “سنو وايت”، ونعرف أنها “سنو وايت” الحقيقية، وليست فتاة تحمل اسمها، لكننا بالأساس نعرف أن سنو وايت “الحقيقية” ليست حقيقية، وإنما شخصية خيالية، سيظهر له “علاء الدين”، صاحب المصباح السحرى، كشخصية حقيقية، يتبادلان حوارًا فى المقهى، وتدور بينهما قصة جانبية، نرى زملاء “بيبو” فى العمل، وبينهم الممثلتين “كيت وينسلت”، و”أودروى تاتو”، ذلك المزج السهل بين الخيالى والواقعى، وتحويل شخصيات خيالية إلى حقيقية، أو نقلها إلى خيال جديد، يحدث هذا بخفَّة ولطافة، كأنها لمسة الفن، التى تُحوِّل الاعتيادى إلى غرائبى، والغرائبى إلى اعتيادى، فتنقل الجميع, الحياة كلها، إلى حالة فنية، مثل كرة تتدحرج وتضيف إلى نفسها أسئلة وأفكارًا.

فى الفصل الثانى من الرواية: “فتاة”، نتابع “ميرڤت عبد العزيز” وهى شخصية لها علاقة قديمة مع المؤلف نفسه، حيث نجدها فى أغلب دواوينه، يتحدث الكاتب عن أنه لا يعرف كيف ينهى هذا القسم من روايته، ولا يعرف ماذا يكتب فيه تاليًا، وأن الرواية “عنكبوت فى القلب” تقفز داخل عقله، وتسطو على شخصية روايته السابقة “أثر النبى”، وتجمع “ميرڤت عبد العزيز” من دواوينه، هنا نرى حيرة الكاتب، وعلاقته بنصِّه، كيف يتعامل معه، كيف تراوغه الكتابة، تطاوعه، وتعانده، كأنها “كتابة على المكشوف”، ثم يقول للذين يبحثون عن نصوص مُبرَّرَة، لا تقرءوا هذه الرواية، ويقولها ضمنيًا لمن يبحثون عن حبكات تقليدية ونقاط إضاءة.

تُقدِّم الرواية ثلاث احتمالات عن نشأة “ميرڤت عبد العزيز”: مرة هى فتاة جنوبية، رفضت الزواج من ابن عمها، ومرة ابنة لأم فلسطينية (كما تحب ميرڤت عن نفسها)، حذرتها هذه الأم من الحب، ومرة ثالثة هى فتاة اسكندرانية من الطبقة المتوسطة، تجيد استخدام الآلة الكاتبة، ربما هذه الاحتمالات ليست إلا تعبيرًا لما يمكن للفن أن يفعله، وما تقدمه الكتابة من حيوات متعددة للشخصية الواحدة.

رواية تلعب بالدرجة الأولى، تدرك ذاتها، أنها رواية، لها وجود، وإرداة، خارج إرداة مؤلفها أحيانًا، وبعض شخصياتها تدرك أنها شخصيات روائية، ومؤلف يظهر داخل روايته بشخصيته، ويتقاطع مع حياة الشخصيات الروائية، يمكننا أن نتوقَّع من مثل هذه الكتابة أن تميل إلى الألعاب والتكنيكات الفنية، والبحث بطريقتها الخاصة، عن معادلات الفن السحرية، ولمساته، وتظلُّ محاولات البحث هذه، فى حَدّ ذاتها، إحدى جماليات النصّ المكتوب.

 يظهر المؤلف لإحدى الشخصيات “بيبو”، ويُقدِّم نفسه له، فنرى كيف أن “بيبو”، الشخصية الروائية، يستقبل هذا بلا مبالاة، ويتمتم كأنما يقول “مؤلف على نفسك”، هو يزيح مؤلفه إلى مساحة ضيقة فى المشهد، ثم يضغط عليه أكثر، ويتحدث إليه بطريقة ساخرة “لماذا جئتَ إلى هنا أصلاً”، ويغادر ليتركه جالسًا بمفرده فى المقهى، هنا يحتل “بيبو” المشهد، بأسلوبه، طريقته فى الكلام، وترْكِه لمؤلفه وحيدًا، ما فعله الفن هنا، أنه حوَّلَ الشخصية الروائية إلى حقيقية، جعلها تحتل المشهد كاملاً حتى فى وجود مؤلفها، أعاد ترتيب العلاقة بين المؤلف والشخصية، وهذا كله نابع من رؤية للكاتب عن الكتابة، تساؤلاته عنها، وما تطرحه هى أيضًا عليه من تساؤلات، وأفكار، هذا الحوار الدائر بين الكاتب وكتابته.

تنشأ قصة حب بين “بيبو”، و”ميرڤت عبد العزيز”، بعد أن تصادفا فى مطعم تعمل به، وظَلَّ هو يُحدِّق فى عنكبوت مرسوم بطرف بلوزتها، بينما تُحدِّق هى فى فردتى جَوربَيه مختلفتى اللون.

تعشق “ميرڤت” التماسيح، صيد العناكب، وبنسات الشعر، و”بيبو” يحب قصص الحب (حتى لو لم يُصرِّح)، التجوال فى وسط البلد، التواجد فى الروايات كشخصية روائية تدرك ذاتها، ومشاهدة الأفلام فى السينما، خاصة أفلام أودرى تاتو (زميلته فى العمل حَسْب الرواية).

شخصيتان بهما مزيج لطيف من غرائبية وعاديَّة، حتى تشعر بأنهما سقطا من كوكب بعيد على الأرض، وفى الوقت نفسه لا يمكن إلا أن يكونا من كوكب الأرض، ستعتقد أنهما أول شخصان يهربان من الكوكب لو أن هناك فرصة لذلك، مثلما قالا لبعضيهما فى محادثة بنهاية الرواية، وفى الوقت نفسه تثق أنهما لن يغادرا الكوكب، حتى لو غادره الجميع.

نراهما وهما يتحركان فى منطقة وسط البلد، نقرأ أسماء شوارع ومقاه معروفة، والتى من المفترض أن تعطى انطباعًا بواقعية حياتهما، لكنها بطريقة ما، تصنع تلك اللمسة الغرائبية، بينما المواقف التى من المفترض أن تكون خيالية، مثل طيران غرفة “ميرڤت”، أو أن تنقل بإشارة من يدها برج حمام من مكانه بإحدى بنايات وسط البلد بينما تقف هى فوق برج القاهرة، وحكايات أسطورية عن قارة أطلانطس، ومغارة هرقل، كلها أضافت إلى الرواية شعورًا بالواقعية، ربما حدث هذا بسبب الطريقة التلقائية التى تم المزج بها بين العالمين، ورؤية الكاتب للخيالى والواقعى، فيمكننا أن نرى كيف أنه لا يتعامل وكأن هناك حدودًا بين العالمين يقوم هو بإلغائها، وإنما الأمر أنه لا حدود أو مسافات بالأساس، لستَ فى حاجة لبذل مجهود كبير كى تجمع مفردات العالمين فى مشهد، أو جملة واحدة، لأنهما عالم واحد، تسبح ألوانه وتمتزج معًا، وعندما ترى ذلك، وتثق به، يمكنك أن تلتقط منه بفرشاتك، وترسم لوحتك. 

يقول الكاتب فى صفحة 163: “لا شىء فى ظنى اسمه أن الواقع أكثر خيالاً من الفن، لأن الفن قادر على جعل الحياة، أكثر جمالاً، والأهم: أكثر احتمالاً”، ثم يطرح تفسيرًا: “ربما يبدو الاحتفاء بما يتناوله الفن، رغم وجود مثيل له فى الواقع، جوابًا على من يقولون أن الحياة صارت أكثر غرائبية من الواقع”، وهو يقدِّمه أيضًا كتفسير محتمل لأسئلة أخرى حول الفن والكتابة.

فى الفصل الأخير من الرواية: “سيارة”، رحلة غريبة يقوم بها “بيبو” داخل سيارة مسرعة داخل نفق مظلم، يقودها بنفسه رغم أنه لم يقُد واحدة من قبل، معه الببغاء “تأبط شرًا”، وقد تحوَّل “سامى” مُجفِّف الفراشات، والمملوك الذى نجا من مذبحة محمد على، وهما شخصيتان ظهرتا فى الفصول القصيرة، ذات الأرقام اللاتينية، تحوَّلا إلى ملاكين على كتفى “بيبو”، الذى يقوم بمحادثة هاتفية مع “ميرڤت” تستمر لأيام، ثم يبحث عن مؤلفه كى يُخرجه من مأزقه، وحبْسَته داخل السيارة، وعندما يصل إلى بيته، يناديه، لكن المؤلف لا يجيب، ويسمع “بيبو” دقات أصابع على الكيبورد، ويتوقع أن مؤلفه يحدد مصيره الآن، فيحاول الخروج من السيارة، ولا يستطيع، يقود من جديد، ويبدأ فى التصرف لإنقاذ نفسه، وفى النهاية، يفتح سقف السيارة، فيطير الببغاء، وتختفى كل الأشياء تباعًا، بما فيها المؤلف، ثم يطير سقف السيارة، يفك “بيبو” حزام الأمان، يترك جسده لأعلى، عيناه مفتوحتان بارتياح، وفى ذهنه تتردد جملة وحيدة ربما سمعها فى فيلم أو  قرأها: “حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية”، التى تبدو وكأنها جملة يقولها المؤلف لنفسه، وهو الذى قال داخل روايته أنه يُفضِّل كونه شاعرًا، يؤكد هنا أنه، عندما يكتب رواية، ويمارس كل ألاعيبه، ويطرح أسئلته وأفكاره عن الكتابة والفن، فإنه يفعل هذا، بقلب شاعر.

……………

نشر في مجلة روزاليوسف

عنكبوت فى القلب

بهاء جاهين

1

بهذا العنوان: عنكبوت فى القلب، صدرت هذا العام للشاعر محمد أبو زيد عن الهيئة المصرية العامة للكتاب رواية هى ثانى أعماله فى مجال القص، فقد سبقتها رواية أولى صدرت عام 2010 بعنوان أثر النبى، بينما للكاتب ثمانية دواوين شعرية صدرت ما بين عامى 2003 و2015، إضافة لعمل شعرى للأطفال بعنوان نعناعة مريم (2005)، ومختارات شعرية بالفرنسية بعنوان قصيدة الخراب (2014). إذن محمد أبو زيد، بهذه الإحصائية، شاعر فى الأساس، لكنه ذو رؤى روائية. وعنكبوت فى القلب قصيدة عملاقة مُرَكَّبة من آلاف التفاصيل والمجازات والاستعارات والرموز. لماذا أقول قصيدة؟ لأن الموضوع حالة حُب، أقول حالة لا قصة حُب، فالحكاية بين العاشق والمعشوق سرعان ما تروغ من بين أيدينا ليتحول المحب فى نظر محبوبته إلى احتمال، ووجوده من عدمه محل نظر وشك. والشخصيات الرئيسية هى انقسامات لذات الشاعر العاشق مبدعة شعر الحب الغنائى، ليصير عندنا فى هذا التجلى الروائى لقصيدة الحب بطل الرواية بيبو ومؤلفها الوارد فى العمل باسمه محمد أبو زيد، بل إن المحبوبة ميرفت عبد العزيز تشبه عاشقها كثيراً فى سماتها الوجدانية لدرجة أنها بمعنى ما صيغة أنثوية لروحه، مع فارق جوهرى كما سنرى. أما باقى الشخصيات الرئيسية فهى رموز ومجازات وصور شعرية: مثل الببغاء تأبط شراً الذى يردد شعر التراث الكلاسيكى وبالتحديد المتنبى، والملاكان السيرياليان الملازمان لبيبو، ملاك الكتف اليمنى واسمه سامى، وملاك الكتف اليسرى واسمه مملوك، ومثل علاء الدين صاحب المصباح الذى تتداخل حكايته المعدلة مع حكاية بيبو وميرفت. ينقسم العمل لمقدمة وأربعة فصول. المقدمة تقدم لنا أهم الشخصيات الثانوية وهى الببغاء تأبط شراً، والملاكان الملازمان لروح البطل بيبو. فتسُوق لنا المقدمة حكاية سيريالية لجذور هؤلاء الثلاثة: فتأبط شراً على سبيل المثال شاعر صعلوك فاتك من جاهلية الصحراء العربية، وقد تحول بقدرة قادر إلى ببغاء أليف فى صحبة الفتى، والملاك الأيسر مملوك هارب من مذبحة القلعة، أما سامى الملازم كتف بيبو اليمنى فملاك قاهرى معاصر من سكان مقابر حى البساتين. ثم يحكى لنا الفصل الأول، وعنوانه فتى، قصة الحب بين بيبو وميرفت من وجهة نظر الفتى بيبو، ولكننا نفاجأ فى الفصل الثانى بعنوان فتاة بالحكاية وقد اختلفت كثيراً عما عرفناه فى الفصل الأول بل لم تعد هناك حكاية تقريباً فيما يخص العلاقة بين بيبو وميرفت، إذ لا يتجاوز الأمر من وجهة نظر ميرفت أن الفتى أثار انتباهها لفترة، وبحثت عنه لساعات، لكنّ اللقاءات بينهما التى أوردها بيبو فى الفصل الأول الذى يخصه لم تذكرها ميرفت على الإطلاق فى فصلها. فرغم التشابه الكبير بينهما فى أنهما شخصيتان انطوائيتان تحبان العيش على هامش الحياة وتكرهان التورط فيها، إلا أن بيبو فى قماشته الروحية رومانسى، تجبره رومانسيته وقدره على التورط عاطفياً فى عشق ميرفت، بينما المحبوبة عقلانية لا يهزها الحب بما يكفى للخروج من شرنقة الذات فتظل غائصة فيها.

 وأما بطل الفصل الثالث، بعنوان مؤلف، فهو محمد أبو زيد نفسه، الذى يعترف لنا بأن ميرفت عبد العزيز هاجس يسكنه ويسكن أعماله منذ ديوانه الثانى قوم جلوس حولهم ماء (شرقيات2006). ولم يتسنّ لى الوقت أو تتوافر النصوص لدراسة كيف تطوَّرت هذه الشخصية الروائية عبر دواوين محمد أبو زيد الشعرية حتى سكنت هذه الرواية. لكنها هنا فى عنكبوت فى القلب فتاة تهوى تربية العناكب، وتفتنها أنثى العنكبوت السوداء السامة كما شاهدتها فى السينما، وكذلك الرجل العنكبوت، وهى عموماً، أى ميرفت، شخصية، غريبة الأطوار كان من سوء حظ بيبو أن يعشقها.. كما سنرى معاً فى السطور القادمة إن شاء الله.

2

فى حديثنا عن رواية «عنكبوت فى القلب» للشاعر محمد أبو زيد, توقفنا فى نهاية المقالة السابقة عند غرابة أطوار شخصية المحبوبة وكيف كان من سوء طالع العاشق بيبو أن يقع فى هواها.. فالبنت التى تهوى تربية العناكب غرست فى قلب عاشقها عنكبوتاً ساماً هو الحب. هذا التشبيه أو الاستعارة التى أعطت الرواية عنوانها, تعكس منذ البداية المزاج الفنى للعمل: وهو الرؤية والصياغة السيريالية لحالة الحب من طرف واحد. فإضافة لما أوردناه فى المقالة السابقة من صياغات وشخصيات تم تجسيدها بأسلوب يذكرنا برسوم سلفادور دالى الغرائبية وتكعيبية بيكاسو, هناك أيضاً سيارة الفصل الرابع والأخير التى تنطلق بقوة دفع ذاتية حاملة بيبو وعالمه الأثير بين عوالم خارجية يختلط فيها الواقع بالخيال, والحى الشعبى بالصحراء والثلج والبحور والجبال, وقد فقد راكبها أى قدرة على إيقافها أو توجيهها فكأنها هى التى تقوده؛ فى إشارة مجازية إلى قلب العاشق. نفس القلب الذى رأيناه فى الفصل الأول موضوعاً فى كرتونة فى شرفة بيبو وبجواره بعض الماء والحَب, كأنه طير عليل مجذوذ الجناحين. والرواية كلها مكتوبة بنفس الروح ونفس المنهاج الذى يُلغى الحاجز الفاصل بين الواقع اليومى العادى والواقع الحواديتى الأسطورى الذى يمكن خلاله أن تطير الشخصية الروائية العادية الواقعية فى أى لحظة حتى تختفى فى ملكوت الزرقة, بنفس البساطة والبدهية التى تشرب بها شاى الصباح أو تركب الميكروباص وتأكل ساندوتش الفول. وهنا قد تزدحم التصنيفات والنعوت النقدية: كالسيريالية أو الواقعية السحرية وما شابه من مصطلحات النقد. لكنى أرى أدق وصف لهذا العمل أنه الرواية حين يكتبها شاعر, وقصيدة الحب حين يحولها كاتب للشعر ذو خيال روائىّ إلى عمل معمارىّ مُركَّب يختلط فيه ويمتزج الواقع بالمجاز كما يحدث دائماً فى الشعر. فإذا أردنا تكثيف هذا الوصف فى كبسولة مصطلح نقدى يمكننا ان نسمى هذا النوع من الكتابة بالواقعية الشعرية.

هنا يجلس علاء الدين صاحب المصباح على مقهى كل يوم, ويسقط الحائط الفاصل بين أنواع الكتابة الأدبية, فى استمرار لما يحدث بشكل متصاعد منذ تسعينيات القرن الماضى. فمحمد أبو زيد كاتب قصيدة النثر, وغيره آخرون, ينتقل بسلاسة من النثر الشعرى, الذى اقترب من القصة واقتربت منه فى ربع القرن الأخير, إلى الرواية: الشكل الذى صار الوعاء والبوتقة التى تنصهر فيها صنوف وأفانين الخيال الأدبى فى نزوع متصاعد نحو التركيب من ناحية, والإغراب والعجائبية من ناحية أخرى, تعبيراً عن واقع عالمى سقطت فيه الحواجز, واشتبكت وتعقدت الخيوط, وصارت الرؤية الأحادية البسيطة عاجزة قاصرة, وأتاحت لنا الإذاعة على الهواء مباشرة أن نرصد العجب اليومىّ ممتزجاً بالبدهى المعتاد. كل هذا جعل الرواية الشكل الأقدر على التعبير عن واقعنا العجائبى المعقد, الموحد حتى وهو شَتَّى, فصارت الرواية هى الأم الحاضنة للأجنة المجنونة التى تتشكل تحت أبصارنا كل يوم, أو فى خيال أدبائنا الراصدين لما يحدث أمام عيوننا. وكان من الطبيعى, خاصة فى كتابات أدباء منطقتنا العربية, أن تنتصر السريالية وتصعد وتتصاعد, حتى فى موضوع رومانسى غنائى كحالة الحب من طرف واحد التى يرسمها لنا الشاعر الروائى محمد أبو زيد, ويحل التركيب محل الرصد والسرد البسيط. وقد استطاع أبو زيد بموهبة نادرة, أن يقدم لنا فجيعة هذا النوع من الحب بخفة ظل وخيال لطيف طريف ورهيف, وأن يحتفظ بمسافة نفسية عاطفية, كما يجدر بروائى, تفصله عن الأحداث التى تحرقه كشاعر, ليتحلى بموضوعية تعصمه من السقوط فى الميلودراما والعاطفية المفرطة, فقدم لنا عملاً ممتعاً, نرى فيه النار البرتقالية تتوهج فى كفينا دون أن تحرق راحتنا وأصابعنا.

…………….

*نشر في جريدة الأهرام

محمد أبوزيد: “عنكبوت في القلب” تُكمل سيرتي الشعرية

حاورته: منى أبوالنصر

صنع الشاعر والكاتب المصري محمد أبوزيد، في روايته الصادرة حديثا “عنكبوت في القلب”، نسيجا سرديا يجمع فيه بين الرواية والشعر، في تجربة تُذيب الحدود بين الفنون، مُحررا أبطالها الذين ظهروا في دواوين سابقة له من سطور القصيدة، بمنحهم حياة أخرى في روايته ليواجهوا فيها مصائرهم الغرائبية، ويعيدوا تشكيل مفردات عوالمهم. 

صدرت رواية “عنكبوت في القلب” أخيرا عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، وهي الثانية لأبو زيد بعد “أثر النبي” وعدد من الدواوين الشعرية اللافتة، أبرزها “قوم جلوس حولهم ماء”، و”مدهامتان”، و”سوداء وجميلة”، و”مقدمة في الغياب” وغيرها.

“العين الإخبارية” أجرت حوارا مع الشاعر المصري محمد أبوزيد، تحدث خلاله عن أجواء روايته الجديدة ومفاتيحها الفنية التي استغرقت 7 سنوات لكتابتها، وإلى نص الحوار..

اخترت أن يكون خروج روايتك الجديدة تحت مظلة الشعر وليست مستقلة عنه، من أين نبتت فكرتها؟

أعتقد أن فكرة الرواية نبتت قبل 15 عاماً، عندما كتبت قصيدة “سيقول الأشرار أنني سأتحدث عن ميرفت عبد العزيز بالتحديد”، ثم ضمنتها ديواني “قوم جلوس حولهم ماء”، ثم وجدت أن شخصية “ميرفت” تنتقل من ديوان إلى آخر دون توقف. لم أكن أدرك عندما كتبت القصيدة الأولى أنها ستنتهي إلى رواية، لكني مؤمن بفكرة “مشروع الكاتب”، الذي يكتمل عملاً بعد آخر، وفيه يطارد أفكاره أو يحدث العكس فتطارده أفكاره. وفي ظني أن مشروعي الكتابي هو شعري بالأساس، لكنني يمكن أن أستعين بكافة أنواع الفنون الأخرى لخدمة هذا المشروع. يمكن أن أستعين بالرواية أو بالشعر أو بالمسرح أو بالموسيقى، لأن الفنون كلها تنبع من معين واحد حتى لو اختلفت طرق وصولها إلى المتلقي.

هل أكملت سيرة بطلتك “ميرفت” وحررتها من خلال “عنكبوت في القلب”؟

يمكن القول إنني قتلت شخصيتي الشعرية الأثيرة في الرواية، أو حررتها. فهذا هو الظهور الأخير لها، لو استخدمنا المصطلح السينمائي، على اعتبار أنني لجأت إلى السينما كثيراً في الرواية. وأعتقد أن هناك نقاط تماس كثيرة بين هذه الرواية ودواويني السابقة، لذا في نهاية الرواية يجد القارئ أنني أضع قائمة بالمراجع هي مجمل دواويني السابقة، كما وضعت ضمن المراجع كتابي “الأرنب خارج القبعة”، لأنني أتماس معه في بعض الأفكار المطروحة فيه حول الكتابة، ووضعت أيضاً روايتي الأولى “أثر النبي”، لأنني قلت إن بطل “عنكبوت في القلب” يغار على بطل الرواية الأولى وسرق منه وحدته. الرواية إذن تكمل سيرتي الشعرية وليس سيرة ميرفت فقط.

في الرواية تماس بين الواقعية والغرائبية وكذلك الوجودية، كيف تصف غواية هذه المساحة في الكتابة؟

أعتقد أن الرواية سعت إلى تحويل الواقعي المعتاد إلى فن، وطرحت بدائل للحياة عبر استقراء المصائر المتعددة لو جاز لي أن أقول هذا. ففي بداية سيرة ميرفت تجدين أن هناك ثلاث قصص لبدايتها، وحتى عندما تحاول أن تفلت من أزمتها الشخصية مع “بيبو” تجد أمامها ثلاث بدائل، و”بيبو” عندما وجد نفسه محبوساً في السيارة وجد أمامه طرقاً متعددة ليسلكها، وأعتقد أن أحد هذه البدائل دائماً هو الفن. فالفن هو ما يجعل الحياة محتملة، ويجملها، لذا تجدين في الرواية شخصيات حقيقية لكنها في واقع غرائبي، وشخصيات خيالية لكنها في واقع ممل. هنا أنا أتركهم في مواجهة الفن، في محاولة للإجابة عن سؤال: ما الذي يمكن أن يغيره الفن في حياتنا؟

شخصيات روايتك على الحافة.. مشردون بين جنون وعزلة، إلى أي مدى استنزفك هذا الاشتباك في مصائر شخصياتك وأنت في طور الكتابة؟

كتبت الرواية في سبع سنوات تقريباً، وبالمناسبة هو عدد السنوات نفسه الذي كتبت فيه روايتي الأولى. وسر هذا العدد الطويل من السنوات، هو الإجابة عن سؤالك أنني أقدم حيوات خاملة، تقف بين العزلة والجنون، لا شيء تقريباً يحدث في حياتها لأنها تهرب من العالم، وليس ثمة تطور درامي يحدث في حياتها إلا بالفن، أو بجنون فني يوازي جنونها؛ لهذا تلجأ إلى خلق واقع افتراضي يصنع حياة لها تنتصر على رتابة حياتها.

تكتب القصيدة خارج إطار “التعليب”، والآن تقدم رواية بلا حدود بين النثر والشعر، هل هذا التحرر السردي هو حليفك في الإبداع؟

أعتقد أننا يجب أن نكتب ذواتنا لأنها تخصنا، ما الفائدة التي تُرجى من أن نعيد كتابة نصوص مكتوبة من قبل؟ نحن نحاول طوال الوقت، ربما نفشل وربما ننجح، لكن أظن أن “الحرية” هي مفتاح الكتابة الجيدة، أقصد التحرر من كل الأشكال التقليدية والمعتادة، التحرر من الأفكار المعدة مسبقاً، التحرر من الشكل، وأعتقد أن الكتابة باعتبارها عملاً ثورياً هي محاولة للتحرر من أطر الحياة التقليدية، وخلق حياة موازية لحيوات أبطالها. 

برأيك ما الذي يُعقد مسألة حصول نشر الشعر على حقه منذ سنوات في العالم العربي؟

بدأ الشعر غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، وطوبى للشعراء القابضين على جمرة قصائدهم رغم تعنت الناشرين والنقاد والقراء الذين يريدون نصاً سهلاً، وإجابة سؤالك في أن كل شيء تواطأ وتآمر على الشعر، بداية من تحول بعض الناشرين إلى “تجار” يسعون للربح دون اهتمام بدور ثقافي، إلى المؤسسات الثقافية العربية التي تهتم بإطلاق جوائز ومنتديات للرواية فقط، إلى النقاد، في حال وجودهم، الذين يستسهلون الكتابة عن الرواية، لكن كل هذا لم يقتل الشعر، بل الشعر مستمر وماضٍ في طريقه ويتطور، وهناك عشرات الأصوات الجديدة المبشرة.

مشروعك المقبل هل هو ديوان أم رواية؟

ـ لست روائياً، ولا أسعى لكتابة رواية إلا إذا فاجأتني فكرة تخدم مشروعي الكتابي، لديّ ديوان قيد النشر عنوانه “جحيم” أرجو أن يصدر قريباً

………….

نشر في موقع العين،   ،الأربعاء 2019/5/15 07:15 م بتوقيت أبوظبي

.

محمد أبو زيد: «عنكبوت فى القلب» تكملة لمشروعى الشعرى

هانم الشربينى

 الشعر لا يموت بالرغم من كل محاولات خنقه

بطل الرواية عالق فى عالم سينمائى متخيل بالكامل

بالرغم من أنه محسوب على جيل الشباب، فإن كتاباته تؤهله لأن يقف فى مصاف الكتاب الكبار ، عرفه القراء كشاعر، لكنه مؤخرا أصدر روايته الثانية «عنكبوت فى القلب» التى يعتبرها استكمالا لمشروعه الشعرى، واستئنافا للبحث وراء شخصيات دواوينه.. إنه الشاعر محمد أبو زيد، صاحب التجربة الشعرية الباذخة، والدواوين شديدة الخصوصية، يؤكد حضوره الروائى الروائى جنبا إلى جنب حضوره الشعري، عن روايته الجديدة وعلاقتها بمشروعه الشعرى وأشياء أخرى كان الحوار:

لماذا لجأت إلى ذكر أسماء حقيقية مثل الكاتب هانى عبد المريد، وقهوة عم صالح وممدوح عامل المقهى؟

تقوم الرواية على لعبة بسيطة. وهى مزج الواقعى بالفانتازي. فمعظم أحداث الرواية تدور تقريباً فى منطقة وسط البلد، فى شوارع معروفة لنا جميعاً: شامبليون، طلعت حرب، مصدق، باب اللوق. ومقاهٍ ومطاعم حقيقية. وهذا يعطى انطباعاً أولياً بأن الرواية مبنية على أحداث حقيقية. لكن عندما يقابل بطل الرواية، علاء الدين أو سنووايت، سيكتشف القارئ أنها ليست حقيقية. وهكذا تظل الرواية تراوح بين العالمين، فى محاولة لمزجهما والخروج بنص يجمع بينهما. وربما هذا مناسبة للقول أن الفصل الثالث من الرواية يكشف تفاصيل عملية الكتابة من وجهة نظري، ورغم إنه مكتوب على لسانى كمؤلف، فإنه أيضاً تنطبق عليه شروط اللعبة السابقة وهى المزج بين الواقعى والفانتازي. ووضع شخصية المؤلف فى الإطار الفانتازي. وأعتقد أننى فى الفصل أشرت إلى هذه النقطة، عندما عقدت مقارنة بين أيهما الأكثر إثارة الواقع أم الخيال، رداً على أولئك الذين يقولون إن الواقع أكثر غرابة من الخيال. والإجابة على هذه الإشكالية هى الفن، تلك اللمسة السحرية التى تحول الجماد إلى فن.

 روايتك تبدو مختلفة من حيث التقنية، فهى تتكلم عن عدة شخصيات معروفة مثل تأبط شراً، عبد الحليم حافظ، كيت وينسلت، ميرفت عبد العزيز، وخلافه، وتجمعهم جميعاً حياة شبه عبثية تغلفها روح السخرية، لماذا هذا التكنيك المغاير تحديداً؟

بالنسبة للسخرية،  فأنا لم أقصد أن أقدم نصاً ساخراً، لكن ربما هى المفارقة، التى تبدو أحياناً مضحكة، رغم أنها أحياناً تبدو كوميديا سوداء. وفى رأيى أن “النكتة” واحدة من أذكى وأبسط الفنون التى اخترعها الإنسان وأصعبها، لأنها تعتمد على نفس آليات العمل الفنى فى الغالب، لو أخذنا الأمر بشكل مبسط. فنحن أمامنا حكاية عادية، تنتهى بالتواءة أو مفاجأة أو نقطة إضاءة تدفعك للضحك. هى تسعى لإدهاشك فى النهاية. والدهشة نصف الفن. الكاتب يكتب لأن فكرة ما أدهشته، والقارئ يكمل ما يقرأه لأن شيئاً ما أدهشه. ولا فن دون إدهاش. والإدهاش هنا لا يعنى أن ترفع حاجيك متعجباً فقط، لكن جزء منه إعجابك بما يقول الكاتب سواء اتفقت معه أم اختلفت. واستدعاء شخصيات فى الرواية بعضها أسطورى مثل “علاء الدين” و”سنووايت”، وبعضها حقيقى مثل “كيت وينسلت” و”أودرى تاتو”،  وتغيير حيواتها بما يتوافق مع الخطوط السردية للرواية يمكن إدراجه هنا تحت هذا المعنى. ما أردته أن أكتب رواية عن امتزج الفن بالحياة، ولا أعرف إذا كنت قد وفقت أم لا.

 الروتين والملل وعدم امتلاك حياة حقيقية هو ما يجمع الشخصيات فى الحكى ما تعليقك؟

أعتقد أن سؤالك هو جوهر حياة ميرفت عبد العزيز. فهى شخصية شديدة العادية، لكنها تسعى لتغيير حياتها بفعل أشياء شديدة الغرابة، فى حين أن الشخصية الأخرى “بيبو” حياته شديدة الغرائبية ويحاول كسر ذلك بفعل أشياء روتينية. وأظن أن هذا جوهر حياتنا جميعاً، فأياً كان العمل الذى نعمل فيه، سيتحول بعد فترة إلى عمل روتين. وأياً كانت الحياة التى نعيشها، ستتحول مع الوقت إلى أيام متشابهة. ولا يمكن الانتصار على هذا إلا بالفن. لذا يمكنك القول أن الرواية تسعى للانتصار على الروتين اليومى بالفن.

 اسمك ارتبط بكونك شاعر.. ما سبب تحولك أو فلنقل التفاتتك لكتابة الرواية؟

لم أكتب هذه الرواية لأننى أسعى لأن أكون روائياً، وهذا ليس تقليلاً من الروائيين، فأى فن هو صعب البناء. ولكنى كتبت الرواية لأنى رأيت أنها ستكون مكملة لمشروعى الشعري. فشخصية ميرفت عبد العزيز ـ الشخصية الأساسية فى الرواية ـ قادمة من دواوينى بالأساس، وإذا راجعت دواوينى السابقة ستجدين فى كل منها قصيدة باسم “ميرفت عبد العزيز”، كذلك ستجدين مقاطع من هذه الدواوين فى الرواية، وستجدين أننى كتبت فى المراجع فى نهاية الكتابة قائمة بجميع أعمالى السابقة. بل أشرت أن بطل الرواية “بيبو” يُغير على بطل روايتى الأولى “أثر النبي”، ويسرق بعض خصائصها. وأقصد بهذا أن الفن مكمل لبعضه البعض. بالنسبة لى أكتب بهذه الطريقة. لا أقصد أننى عندما كتبت ديوانى الأول كنت أفكر فى هذه الرواية، ولكن أقصد أن هناك مشروعاً كاملاً يكتمل من نص إلى آخر، وبأى نوع من الفن يمكن أن يكمل هذا المشروع. ولو نظرنا إلى تراثنا العربى القديم ستجدين الكتاب العرب قدموا كل أنواع الفنون. العقاد كتب الرواية والشعر والنقد، والمازنى كذلك وعبد الرحمن الشرقاوي. وهناك أسماء كثيرة تندرج هنا. أنا ضد حبس الكاتب فى بوتقة ومحاكمته إذا جرب نوعاً آخر من الفنون، لأن هذا ضد طبيعة الفن بالأساس.

 ثقافة الراوى السينمائية تم استخدامها لخدمة بطل الحكاية.. لماذا ذلك؟

كما أشرت فى إجابة السؤال السابق، فالفنون كلها يمكن أن تصب فى مكان واحد لتخدم العمل الفني. وفى ظنى أن السينما من أهم الفنون الموجودة حاليا، وهى تستفيد من الأدب والشعر والموسيقى، فلماذا لا تفعل الرواية ذلك، لماذا لا تستفيد من أصناف الفن الأخرى. فى “عنكبوت فى القلب” يمكن أن تقولى أن البطل عالق فى عالم سينمائى متخيل بالكامل، بل إنه فى نهاية الرواية يرى نفسه بطلاً لأحد فيلمين،  الفيلمان يقومان على فكرة التخيل والأحلام، وفى هذا إجابة على لغز الرواية، إذا كانت لغزاً. لذا يمكننى القول إن الأفلام التى أشرت إليها فى الرواية هى أحد مداخل فهم الرواية.

  كيف بدأت تجربتك فى السرد وهل تكتب عبر روح الشاعر ومن بوابة الشعر؟

لم أقصد أن أصبح روائياً. وحتى الآن أستغرب عندما يصفنى أحد بصفة “الروائي”، وبعد صدور روايتى الأولى “أثر النبي” قررت ألا أكتب الرواية مرة أخرى، لأننى لم أكتبها لأكون روائياً، لكن لأنها كانت تجربة ضاغطة بالنسبة لي، ولم أجد طريقة للتخلص منها إلا بالكتابة. ورغم أننى جربت طويلاً فى البدايات كتابة القصة القصيرة، وهناك نصوص كثيرة منشورة لى فى دوريات أدبية وصحف، إلا أننى عندما قررت أن أنشر اخترت الشعر، لأنه رفيقى منذ البداية، ولأننى أجد نفسى أقرب إليه. وعندما جاءت هذه الرواية، أو عندما فاجأتنى لو وددت الدقة، لم أرد أن أكتبها كرواية تقليدية ـ لكن وددت أن أغلق فيها خطوطاً مفتوحة فى دواوينى السابقة. وأن أكتبها انطلاقاً من كونى شاعراً، وهذا ما كتبته فى فصل “مؤلف” فى الرواية، إننى أكتب كشاعر وليس كروائي، وفى ظنى أن أكثر من سيفهم الرواية هو من قرأ دواوينى السابقة، لأن طوال الوقت هناك إشارات يمكن فهمها من خلال الرواية، ولا يعنى هذا أن الرواية لا يمكن فهمها منفصلة، ولا يعنى أيضاً أننى أطالب القارئ بقراءة أعمالى السابقة قبل قراءة الرواية.

 البطل يحمل فلسفة خاصة تجاه الحرية والوحدة والحياة والموت والنهايات فى الافلام والروايات.. هل أى عمل روائى لابد أن يلتصق بأسئلة الحياة الوجودية؟

أعتقد أن العمل الأدبى أياً كان هو محاولة للإجابة عن أسئلة الكاتب الوجودية والفلسفية. بل إن هذه المحاولة هى الإجابة الأولى على سؤال: لماذا نكتب؟ نحن لا نكتب للشهرة ولا للمجد ولا للمال. لأن هذا غير موجود فى عالمنا العربي، لكننا نكتب للإجابة عن هذه الأسئلة التى تعذبنا. نحن لا نصل إلى إجابة فى النهاية. وهذا جيد، لأن الوصول إلى إجابة يعنى أننا سنتوقف عن الكتابة. لكن الكتابة بالنسبة لى محاولة للفهم، محاولة للإجابة عن أسئلة عالقة، وأعرف أنها ستظل عالقة، لكننى لن أكف عن المحاولة.  

 ما أهم المدراس الأدبية التى أثرت فيك؟

أحب الفن بمجمله. ولا أهتم كثيراً بالمدارس الفنية. فكما أحب قصيدة النثر وأكتبها، أحب الجيد فى قصيدة التفعيلة والجيد فى القصيدة العمودية. فى كل شيء يمكن أن تجدى فناً، حتى فى معمار بناية قديمة فى وسط البلد، فى مقعد خشبى مشغول بالأرابيسك، فى لوحة قد لا تفهمينها لكنك تحبينها، حتى فى طبق طعام مطهو بشكل جيد، الفن موجود فى كل شيء، المهم أن نجده، وبعدها سنفهمه بطريقتنا.

 يقولون إن الزمن الحالى زمن الرواية.. فما رأيك؟

أعتقد أن الشعراء لم يتوقفوا عن كتابة الشعر بعد.. أليس كذلك؟ ليس زمناً للرواية، ولكن هناك عوامل مشجعة أكثر على كتابة الرواية، هناك جوائز عربية كبرى، فى حين لا توجد جوائز للشعر، هناك دور نشر تفضل نشر الرواية لكنها لا تنشر الشعر، هناك مؤتمرات دولية ومنتديات للرواية ولا يوجد مثلها للشعر، هناك قوائم “بيست سيللر” للرواية ولكن لا يوجد مثلها للشعر، هناك نقاد “يستسهلون” الكتابة عن الرواية و”يستصعبون” الكتابة عن الشعر، هذه كلها عوامل قد تساعد على انتشار الرواية، والترويج لها. لكنها لا تقتل الشعر ولا تنهى زمنه، بل إن ما أراه أن هناك “هبّة” شعرية، واتجاه كبير لكتابة الشعر، هناك عشرات الأسماء الجديدة التى نطالعها دائماً. وهذا يعنى أن الشعر لا يموت بالرغم من كل محاولات خنقه. لأن فى الشعر روح الإنسان.

 كيف ترى تعاطى النقد مع دواوينك؟

لنكن صرحاء. لا يوجد نقد للشعر من الأساس. معظم الدراسات النقدية المكتوبة عن دواوين شعرية ـ ولا أتحدث هنا عن نفسى بل عن الجميع ـ مكتوبة بالأساس من شعراء أو روائيين، وهى انطباعات محبين للشعر، أو قراءات ليست أكاديمية. أين المشكلة إذن؟ المشكلة فى أن النقاد لا يفضلون الكتابة عن الشعر، ولكل أسبابه. والعيب فى هذا لا يعود للنقاد فقط، بل يعود للمنظومة الثقافية والتعليمية بالكامل، والتى تبدأ من المدرسة التى تسفه وتسطح من الشعر، وتوقفت عند القصيدة العمودية، وتمتد إلى الجامعة والتى لا يقبل بعضها رسائل ماجستير ودكتوراه عن قصيدة النثر، مروراً بالجو العام فى الصحافة والإعلام التى تروج وترحب بالرواية والكتابة فقط عنها.

 أنشأت تجربة صحفية ثقافية هامة هى “موقع الكتابة” كيف جاءت فكرته وما الهدف منه؟

موقع الكتابة بدأ قبل 12 عاماً، وهو أقدم موقع ثقافى مصري. أطلقته فى الوقت الذى لم تكن هناك طرق للنشر فى مصر إلا عن طريق الصفحات الأدبية فى الصحف والمجلات، وهى محدودة بطبيعة الحال وبعضها تسيطر عليه الشللية. وكان الكتاب يلجأون للنشر فى بعض المواقع الثقافية العربية المعروفة وقتها هربا من الحصار. وكان هذا هو الهدف من إطلاق الموقع وهو فتح نافذة جديدة للنشر، لا شلة لها، وتنحاز فقط للكتابة الجيدة، وللجمال فى الكتابة، كما قلت فى بيان تأسيس وإطلاق الموقع. وعلى مدار 12 عاماً قدم الموقع ملفات ثقافية عن عدد من رموز الكتابة الجديدة فى مصر، يمكن فى ظنى اعتبار الموقع ـ بملفاته ـ وبمقالاته ونصوصه أرشيفاً للكتابة فى مصر خلال هذه السنوات.

…………………

*نشر في مجلة الإذاعة والتلفزيون، تاريخ النشر ٢٢:١٧:٣٩ – ٢٠١٩/٠٥/٢٤

محمد أبوزيد لـ الجريدة•: الناشرون لا يأبهون بالشعر لأنه «لا يبيع»

مازال الأديب المصري محمد أبوزيد يلفت أنظارنا إلى روعة ما يغزله بقلمه، سواء في عالم القصيدة التي برع فيها شاعراً، أو حين طرق أبواب السرد، وبمناسبة صدور روايته الجديدة الشائقة «عنكبوت في القلب».. التقته «الجريدة» في هذا الحوار الذي أكد فيه أن روايته الجديدة استكمال لمشروعه الشعري، وأن الشعر باق رغم أن الناشرين لا يأبهون به… وإلى نص الحوار:

• ما الأجواء التي تدور فيها روايتك الجديدة “عنكبوت في القلب”؟

– أعتبر هذه الرواية تكملة لمشروعي الشعري، إذ تدور حول شخصية فتاة اسمها ميرفت عبدالعزيز، هذه الفتاة ظهرت في جميع دواويني السابقة تقريبا. ويمكن القول إنني فتحت قوسا في ديواني “قوم جلوس حولهم ماء”، الذي ظهرت فيه هذه الشخصية لأول مرة، ثم تتابع ظهورها في جميع الدواوين التالية، حتى وصلت إلى هذه الرواية، وتجلت فيها تماما كشخصية مكتملة، وتحولت من شخصية شعرية إلى شخصية روائية، حيث يمكنني بهذا العمل أن أغلق القوس، وأقول إن التجربة انتهت هنا. أفضل أن يُنظر إلى الرواية باعتبارها نقطة على هذا الخط الذي توجد فيه دواويني السابقة، تكمله وليست شيئا مختلفاً أو مغايراً.

أعتقد أن المحك الأساسي في كتابة الرواية بالنسبة لي كان هو كيف يمكن تحويل العادي إلى غرائبي، وكيف يمكن تحويل الغرائبي إلى عادي

• إلى أي مدى تتماشى الرواية مع ذاتك؟

– جميع شخصيات الرواية تتماشى مع ذات المؤلف، لأنها خارجة من داخله. لكن من يقرأ الرواية قد يعتقد أن الغرائبية فيها تجعلها بعيدة عن الواقع، وهذا حقيقي، لكن أعتقد أن المحك الأساسي في كتابة الرواية بالنسبة لي كان هو كيف يمكن تحويل العادي إلى غرائبي، وكيف يمكن تحويل الغرائبي إلى عادي!

وتنقسم الرواية إلى أربعة أقسام: فتى، فتاة، مؤلف، سيارة. وفي القسم الثالث “مؤلف” أظهر بصفتي مؤلفاً، وأتحدث عن الرواية وعن علاقتي بها، وعن علاقتي بأبطالها، وعن حيرتي بشأن مصائرهم، وهذه محاولة لإشراك القارئ في لعبة الكتابة. وإذا كان البعض يمكنه أن يفسر هذا باعتباره تجريباً، فإنني أعتبره “نوع الكتابة الذي أفضله”، والذي يختلف عن السرد التقليدي الذي لا أجيده.

• بدأت شاعراً، ثم تحولت إلى الرواية، لماذا؟ وهل هذا بسبب أزمة نشر الشعر التي أشرت إليها في مقال لك؟

– لازلت شاعراً، وكتبت في فصل المؤلف في الرواية أنني أفضّل أن أكون شاعراً، وهذا ليس تقليلاً من الرواية ولا الروائيين، بل تهيُباً. وأي عمل فني، سواء كان شعراً أو قصة أو رواية أو موسيقى، يحتاج إلى جهد كبير. أتفق معك في أن هناك أزمة حقيقية في نشر الشعر في الفترة الأخيرة، سواء في دور النشر الخاصة أو العامة، لكن هذا لن يدفعني إلى تغيير اتجاهي في الكتابة. وسبب الأزمة أن الناشرين لا يأبهون بالشعر، لأنه في نظرهم “لا يبيع”، طبعاً لكل قاعدة استثناء، لكن هذا التصور نتيجة تراكمات طويلة، منذ أن قال أحد النقاد إن هذا زمن الرواية وانتهاء بوجود عشرات الجوائز للرواية، ولا توجد جوائز للشعر، لكن ما أريد قوله هو أنه لا دور النشر ولا الجوائز هي التي ستدفع كاتباً لتغيير اتجاهه في الكتابة – حتى لو فعل البعض ذلك – فالشعر باق شاء من شاء وأبى من أبى، حتى لو كتبنا قصائدنا واحتفظنا بها في أدراجنا دون نشر، سيظل الشعر ملاذاً لنا وللقراء.

• ما الذي وفّرته لك الرواية ولم يكن ليستوعبه النص الشعري؟

– أفضّل أن تدرج هذه الرواية، تحت مسمى “الكتابة”، لأنني كتبتها بهذا القصد. لم أكتبها لأنني وددت أن أترك الشعر وأتجه للرواية، بل كتبتها لأنني أرى أنها قطعة “بازلت” مهمة تكمل جزءاً مما أعتبره مشروعي الإبداعي.

• تناولت أعمالك بالنقد أسماءٌ كبيرة، كيف يستفيد الأديب من توجيهات النقاد؟… حدثني هنا في ضوء تجربتك.

– في البدء كان الإبداع، ثم جاء النقد، أقصد أن النقد عمل حاصل للكتابة الإبداعية، وهو مفيد في كل الأحوال، ويضيء على نقاط في العمل الأدبي قد تكون غير واضحة للكاتب، أو تشرح للقارئ بعض ما يقصده الكاتب. لكن في الوقت ذاته من المهم هنا أن أشير إلى أن ثمة أزمة نقد حقيقة في العالم العربي.

فإلى جانب أنه لا توجد نظريات نقدية عربية، لدينا إشكالية في أنه لا يوجد جيل جديد من النقاد يتابع جديد المطابع إلا عدد محدود يعد على أصابع اليد الواحدة، أما الجيل القديم من النقاد، فهو لا يلتفت إلى الأجيال اللاحقة له من الكتّاب. وربما تتضح هذه المشكلة في الشعر أكثر منها في الرواية، لذا نجد أن معظم الدراسات النقدية لكتّاب ومبدعين، وليس لنقاد أكاديميين يجب عليهم متابعة الجيل في الشعر والرواية.

• كتبت شعراً للأطفال.. وصدر لك “نعناعة مريم” عن هيئة قصور الثقافة عام 2005، لماذا لم تكرر التجربة؟

– الكتابة للأطفال تحتاج إلى حساسية خاصة، ربما كنت أملكها وقت أن كتبت هذا الديوان، ليس بإمكاني أن أعبئ الورق بأي كلام، وأقول هذا شعر، فالكتابة للأطفال مسؤولية كبيرة، لأنها تشكل وعي ووجدان قارئها. على عكس الكتابة للكبار، حيث يقرأ القارئ على مسؤوليته الشخصية. فضلاً عن أن الكتابة للأطفال تتطلب مواصفات خاصة، فإننا لدينا أزمة كبرى في النشر للأطفال، أولاً لقلة عدد مجلات الأطفال العربية، والتي تتناقص تدريجياً حتى أوشكت على الاختفاء، إضافة إلى أن النشر للأطفال أصبح صعباً حتى على الناشرين أنفسهم، لتكلفته المرتفعة، وحتى عندما نجد كتباً للأطفال فهي مرتفعة لثمن، وفي الغالب تصل إلى شريحة معينة.

• برأيك ما هي المواصفات التي يجب أن تتسم بها القصيدة الموجهة للصغار؟

– البساطة هي الأساس، وفهم كيف يفكر الطفل، حتى يستطيع الكاتب أن يصل إليه.

• ما المشروع الأدبي الذي تخطط له الآن؟

– أعمل حالياً على ديوان جديد بعنوان “جحيم”، أرجو أن يصدر قريباً.

«عنكبوت في القلب»| هكذا حول أبو زيد أشعاره إلى رواية

تحرير:كريم محجوب
شهدت دار هن للنشر والتوزيع مساء الأمس حفل توقيع ومناقشة رواية “عنكبوت في القلب” الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، للشاعر محمد أبو زيد، الذي ناقشنا معه الرواية.
“مد يده إلى الداخل، إلى يسار جسده، لا هذه الأمعاء، لا أريد البنكرياس.. عندما ظفرت به يده نظر إليه (القلب) بأسى كان جزء كبيرا منه قد تفحم تمامًا وتساقط الرماد منه، والجزء الآخر أصبح مثل جمرة منطفئة، ومنه يبين شريان ينبض بوهن شديد، مثل كلب شوارع أصيب بطلق ناري وينازع الموت”.. ما سبق فقرة من رواية، لا تصنف كرواية رعب أو يمكن اعتبارها أصلًا رواية بمقاييس الكتابة المتعارفة، وإنما أفكار خرجت من صُلب فكرة أساسية طاردت المؤلف سنين طوال فقرر أن يعرضها علينا عسى أن يجد في كتابتها إرضاءً لنا، أو على الأقل يسقط عبئها من فوق كاهله ويشاركنا إياها.
بطبيعة الحال من الصعب أن تسمع صوت الكاتب أو تجده يتحدث عن أعماله أو عما يجول بخاطره من أفكار، فصمته لا ينقطع وإذا أراد أن يحكي فإنه يكتب الشعر ولكي يستفيض كتب هذه الرواية.

رواية “عنكبوت في القلب”، للكاتب الصحفي والشاعر محمد أبو زيد، الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كتبها على مدار 5 أعوام، وفور أن أتمها، قدمها إلى الكاتب الكبير سيد الوكيل لتقييمها، فرأى فيها الوكيل أنها أذابت الفوارق الفكرية بينهما، لما تحمله من أفكار، فـ”عنكبوت في القلب” لا يوجد بها مسافة بين الذات والموضوع، على حد وصف الوكيل، بل ذات الكاتب هي صلب الموضوع ومحوره، وأن هذه الرواية تفردت عن غيرها لا بالتقنية أو اللغة، وإنما بخصوصية التجربة الذاتية.
كما قال الروائي محمد الفخراني إن محمد سعى في الرواية لترجمة أفكاره لنص روائي من خلال وجهة نظره وتصوراته الفنية، وأن تلك الرواية هي استكمال لدواوين الكاتب الشعرية.
حالة من الاستغراب والدهشة انتابتنا، فدفعتنا لسؤال الكاتب عن علاقة دواوينه الشعرية بالرواية، وما تلك الفكرة الملحة التي دفعته لكتابتها؟
يجيب محمد: الرواية لا تقدم حدوتة عادية، بل تقدم جدلية علاقة بطل الرواية بالمؤلف والقارئ، وذلك على خلفية قصة بسيطة، وفيها لم أقصد أن أقدم طريقة مغايرة في أسلوب السرد؛ لأني لست روائياً، بل شاعر يكتب رواية، يرى أنها تكمل نقاطا معينة في مشروعه الشعري إذا جاز هذا التعبير، والرواية مكتوبة انطلاقا من هذا المفهوم، مكتوبة باعتبارها كتابة، أو قطعة بازل في لعبة الكتابة الكبيرة

ويفضل أبو زيد أن يتم النظر إلى الرواية من خلال قراءة أشعاره السابقة، لأنها إغلاق لقوس كبير ممتد قد فتح يمينه في ثاني دواوينه «قوم جلوس حولهم ماء»، ثم استمر القوس مفتوحًا فيما لحقه من دواوين وأغلق يساره بهذه الرواية.
«لم تحب ميرفت شيئا في حياتها مثل العناكب والقطط الضالة والتماسيح وآثار الأقدام الحافية على الرمال ومشاهدة الكتاكيت الصغيرة وبنسات الشعر لم تستطع أن تقتني تمساحًا في البيت لضيق المكان فرتبت الأركان بيوتا آمنة للعناكب. تدق على أبواب شقق الجيران وهي تمسك في يدها ممسحة الجدران تقول لهم وهي تقطر خجلًا هل من الممكن أن أنظف الجدران وقبل أن يجيب أحد تكون قد أصبحت داخل الشقة بالفعل، ترفع عصاها إلى ركن الحائط وتلفها بحرص حول بيوت العنكبوت الموجودة وعندما لا تجد تهز رأسها آسفة مصدومة وتغادر دون حرف واحد».. هذه شخصية ميرفت عبدالعزيز الذي قال عنها أبو زيد إنها من أتم بها الرواية عند تحديد مسارها داخل العمل.
ميرفت هي الشخصية المحورية في الرواية، التي استدعاها محمد بعد طول عشرة معها كشخصية شعرية في معظم دواوينه، ثم حولها لشخصية سردية تتمحور حولها الأحداث، بل يمكن القول إن تحركها، ووجودها في الرواية كان إجابة سؤال ظل الكاتب يطرحه على نفسه وهو كيفية تحول شخصية شعرية إلى كيان حقيقي من لحم ودم؟
…………..نشر في موقع جريدة التحرير ٠٣ مايو ٢٠١٩ – ٠٧:٠٠ م