«عنكبوت فى القلب» تقاسيم على لحن الوحدة

د. عزة مازن

«عنكبوت فى القلب» (2019) رواية للشاعر «محمد أبو زيد»، نفث فيها روح شعره، فجاءت امتدادا لمشروعه الإبداعى فى الشعر وتنويعة جديدة على روايته السابقة «أثر النبى» (2010). تحفل الرواية الجديدة باقتباسات من دواوينه السابقة وتستجمع شذرات من شخصية «ميرفت عبد العزيز» من تلك الدواوين. مثلما يتداخل الغرائبى مع الواقعى فى الرواية، يظهر المؤلف بشخصيته الحقيقية ليصف حيرته فيما وراء السرد: «تتقافز الرواية فى رأسى، تُغير على بطل «أثر النبى» فتسرق وحدته ومشاعره فأشعر أنهما وجهان لعملة واحدة، إحداهما تطوير وإعادة كتابة للأخرى، تجمع ميرفت عبد العزيز من دواوينى السابقة، وتلصقها فى لوحة بازل كبيرة أمامى على الحائط.. ».تُستهل الرواية بخمس فقرات سردية تشكل عتبة النص وتستلهم منهج الأسطورة، حيث يلتقى الواقعى بالغرائبى، وكأنما يشحذ ذهن القارئ ليجمع قطع البازل المتناثرة فى نصه ليعرف تلك الشخصية الغرائبية الواقعية: ميرفت عبد العزيز. تفتتح الفقرة الأولى من عتبة النص: «فى البدء لم يكن هناك شىء، فقط، الشمس والقمر والليل والنهار والفصول والرياح والشعر والكتاب وميرفت عبد العزيز…. فى النهاية لم يكن هناك شىء. فقط الحشود، والطريق والسيارة والبنايات وزجاجات المولوتوف والوجوه الشوهاء والهاتف وتأبط شرًا وميرفت…. بين البداية والنهاية حكاية ورواية، رواية تنتهى فى السماء، وحكاية تبدأ فى الأرض».فى ختام الفقرة الأولى يلقى الكاتب بشفرة النص، التى يدركها القارئ قرب نهاية الرواية: «تقول الأسطورة إن الطبيعة غضبت عليه، وأن الله مسخه إنسانًا، يتعذب قلبه كلما تفتحت زهرة على غصن… أو لمح فتاة تشبه ميرفت عبد العزيز تمر من أمام أحد مقاهى شارع شامبليون…. تزيد الأسطورة أنه سيظل هكذا، تائهًا، يدور فى الفراغ بسيارته، مثل مروحة سقف مجنونة. من هنا قررت أن أبدأ هذه الرواية».فى الفقرة الثانية يحكى، متقمصاً راو تاريخى، حكاية «تأبط شرًا» الذى عاش فى سالف الأزمان وفى النهاية «قرر أن يسير ببغاء، يكرر حكايات الرواة، ويسأل كل من يلقاه عن صوته الذى ضاع منه، ويروى انه عاش قرابة الألف وخمسمائة سنة». تلقى عتبة النص ضوءًا على حياة سابقة لكل من المملوك الوحيد الهارب من مذبحة القلعة، وسامى، حفار القبور الذى اضطر لقضاء ليلة فى إحدى المقابر، ولم يعد. فى ثنايا السرد يرافق الثلاثة، الببغاء والمملوك وسامى، بيبو، الشخصية المحورية فى الرواية. تؤهل الفقرات الأربعة للولوج إلى عالم السرد الذى يبدأ بالفصل الأول «فتى». يدور السرد هنا حول «شخص» – نعرف لاحقًا أن اسمه «بيبو» – يعيش وحيدًا فى «غرفة ضيقة ممتلئة بالكتب والجرائد القديمة والطائرات الورقية واللوحات المقلدة على الحائط واسطوانات الأفلام المدمجة». يتمدد الشخص على السرير الوحيد بالغرفة «وعيناه تتأملان سحابة من الرطوبة ناشعة بوضوح فى السقف ترسم عنكبوتًا وفتاة بجناحين». يحلم هذا الشخص بميرفت، مع أنه لا يعرف أحدًا فى الحقيقة بهذا الاسم، ولكنه علق فى ذهنه منذ وجد اسم «ميرفت عبد العزيز» مكتوبًا فى الصفحة الأخيرة من إحدى كراساته عندما كان طفلا فى الصف الرابع الابتدائي. هنا يلقى الكاتب بخيوط السرد متشابكة مستدعيًا شخصية «ميرفت عبد العزيز» من فضاءاته الشعرية فى معظم دواوينه لتسكن عالمه الروائى وتصنع جسرًا بين العالمين. فى الفقرة الثانية «شكر مستحق للمؤلف» يبدأ الكاتب فى لف حبائل عالمه الغرائبى حول القارئ ليلقى به فى مشهد يستدعى أفلام الكارتون: «اكتشف إصابته بالحب بمحض الصدفة…. فتح البلكونة… ألقى بطرف بصره إلى الركن، حيث الكرتونة الملقاة هناك: كان قلبه ينبض وقد اختفى القمح من حوله…. أزاح خيوط بيت العنكبوت، جرب أن يمد يده ليلمسه فى حذر، لم يجد أثرًا للتفحم، الأماكن السوداء أصبحت بلون ورائحة حقل من البرسيم ونبتت الأجزاء المهشمة من جديد». على مقهى بوسط البلد يلتقى «بيبو» بعلاء الدين الذى يفاجأ بأنه يعرف عنه كل شىء، ويستودعه مصباحه أمانة عنده. وفى مطعم فى وسط البلد أيضًا يلتقى بنادلة ترتدى بلوزة زرقاء مرسوم فى طرفها عنكبوت صغير، يتضح لاحقا أن اسمها «ميرفت» وتعشق تربية العناكب. يستغرق «بيبو» فى عوالم سينمائية. فزميلاته فى العمل «كيت وينسلوت» و”أودرى تاتو». يستعير «بيبو» تلك الشخصيات السينمائية ليشركها فى عالمه الخاص: «يحفظ كل أفلام أودرى تاتو، وكلما رآها حدثها عن دور لها فى إحداها، لدرجة أنه كان يكرر لها نفس الكلام… أنقذها هذه المرة زميلها الطبيب الذى جاء مهرولًا ليحدثها عن مريض أصيب بنوبة هستيرية…. مرّت كيت، ملوحة بيدها، فحرص أن يلقى دعابة صغيرة، لكى تطلق ضحكتها العالية، فتبين أسنانها، ويتأكد أن السوس بدأ ينخر فيها، بسبب عدم استجابتها لنصيحته بالتوقف عن التدخين». تختلط الخيوط وتتشابك ويتسرب الشك إلى عقل القارئ «هل يعمل بيبو موظفًا فى مستشفى للأمراض العقلية، أم أنه أحد نزلائه؟».فى طفولته سكنت الأحلام عالمه وبدأ البحث عن «ميرفت عبد العزيز». واعتاد أن يصنع طائرات ورقية يطلقها فى الجو يكتب عليها «يا ميرفت». حاول أن يكتب شيئًا آخر «لكن وجد ذهنه خاليًا تمامًا. فأطلقها، راقبها تحلق بعيدًا بعيدًا، فى اتجاه بلاد لا يعرفها، لكن حتمًا تسكنها ميرفت عبد العزيز». اختار بيبو حياة الوحدة والعزلة منذ طفولته، وتكثفت ملامح عزلته المختارة بعد انتقاله من قريته للدراسة فى القاهرة. يبدو بيبو سعيدًا بوحدته، لأنها تعنى الحرية، أن  «تتحرر من الآخرين، من أسئلتهم، من اقتحامهم تفاصيل حياتك…». تدفعه الوحدة لعوالم غرائبية. ففى طريق عودته من المقابر يقف تحت شجرة سنط منتظرًا حافلة تعيده إلى المنزل، فتخبره الشجرة بأنه ما من أحد جاء إلى هناك منذ زار المقابر آخر مرة. طلب منها أن تنساه ولكن «مالت الشجرة بأغصانها قليلًا عليه، كأنها تهمس له بسر، تخشى أن يسمعه الموتى: – ربما لا يحدث، ربما تصير بطلًا لرواية، ربما تحب نادلة، ربما تبحث أنت عن الناس». منعه وصول الحافلة فى نفس اللحظة من أن يخبر الشجرة كم يعشق وحدته ويكتفى بها، ويستغنى بها عن الآخرين: « الوحدة استغناء. أن تكتفى بنفسك عن الآخرين. أن تصبح أنت كل عالمك». تمر الأيام ويزداد بيبو تقوقعًا حول ذاته، فقرر أن يحمى نفسه من المشاعر: «لذا مد يده إلى صدره، خلع قلبه…. وضعه أمامه على الطاولة… وضع بعض الطين والأسمنت عليه حتى سد مسامه تمامًا، ثم أعاد إغلاق صدره». اكتشف بيبو إصابته بالحب عندما شاهد نادلة المطعم التى ترتدى بلوزة مرسوم عنكبوت فى طرفها. وتزداد دهشته عندما يعرف أن اسمها «ميرفت».هل يحب بيبو وحدته فعلا أم أنه يحتمى بها من الاختلاط بالناس. يبحث عن الآخرين ولكن يبقى على الحافة دون انغماس حقيقى. فهو يحب أن يذهب إلى محطة مصر «كلما أراد أن يختلط بالناس ويشم روائح بؤسهم وحزنهم وحكاياتهم». وفى إحدى المرات كان كل شىء مألوفًا فى المكان، إلا أنه التقى ميرفت فى طريقها إلى الإسكندرية، فسافر معها إلى هناك فى رحلة قصيرة. وتتواصل الأحاديث الهاتفية بينهما وتتكرر اللقاءات غير المدبرة. فيشاهدا عرضًا فى السيرك وفيلما فى أحد دور العرض.أحب بيبو «الصور التى يرسمها لها فى ذهنه يومًا بعد آخر، فتاة وحيدة تعمل فى مطعم، تعزف الأكورديون، تقود دراجة على كورنيش الإسكندرية، تحب الجلوس بجوار النافذة فى القطار…». عندما عجز عن اختيار هدية مناسبة لها فى عيد ميلادها، أهداها فانوس علاء الدين الذى استودعه عنده، ظنا منه أنه لن يلقاه ثانية. وهنا يحضر المؤلف فى النص متماهيًا مع الراوى العليم: « فهو يشعر أنه عندما يعطى المصباح لميرفت سيقدم خدمة للمؤلف لأنه يغلق دائرة نصف قطرها فى السيرك، وستتعقد الحكاية أكثر، وتصبح لديه مبررات درامية لخلق مستويات أخرى من السرد».  وفى نهاية الفصل الأول يتجلى تماهى الراوى العليم مع المؤلف، فيقابل بيبو على مقهى فى وسط البلد.احتل الفصل الأول «فتى» ما يقرب من نصف الرواية ويأتى الفصل الثانى «فتاة» لينقسم بدورة إلى فقرات سردية، ولكنها تُستهل جميعًا باقتباسات من دواوين الكاتب السابقة، فبدا كأنما يجمع شذرات شخصية «ميرفت عبد العزيز» المتناثرة فيها. لاحت الفتاة كأنها القرين الأنثى لبيبو، تقدس الوحدة وتعشق العزلة، ويومئ السرد إلى ذلك بهواية تربيتها للعناكب.تعيش ميرفت حياة غاية فى الروتينية، مثلها مثل بيبو،  ومن ثم تبتدع لنفسها حياة موازية تمتلئ بالغرائب، منها أن تشترك «فى منتديات الغرائب على الإنترنت، وتدمن قراءة روايات أحمد خالد توفيق، ومشاهدة أفلام هيتشكوك وتحفظ مشاهد كاملة من «صمت الحملان»… وتتساءل ميرفت عن شغفها بالعناكب فلا تصل إلى شىء، ولكن  «بينها وبين نفسها تحسد العناكب على دأبها ووحدتها، فدائمًا ما تجد العنكبوت وحيدًا فى أقصى ركن الحجرة».يتماهى المؤلف مع الراوى العليم فى شذرات متناثرة من السرد، يشرك القارئ فى الأحداث والنهايات المحتملة، بل وتقنية الكتابة ذاتها. فيكرس الفصل الثالث «المؤلف» لعملية الكتابة ذاتها، وهنا يتوقف السرد  ويحكى الكاتب عن أحداث واقعية  فى حياته تلتقى بالغرائبى من وحى الخيال، ويذكر أصدقاء له بأسمائهم الحقيقة، ويتطرق إلى تملك تلك الرواية منه حتى أنه لم يستطع منها فكاكًا: « الرواية بالنسبة لى كانت مثل مارى الدموية، نداهة تقول: تعالى إلىَ حتى تنعتق من الهم الذى يسيطر عليك…». ويستطرد الكاتب لحكاية أسطورة مارى الدموية فى التراث الشعبى الأوروبى «أسطورة الشبح الذى يظهر ليؤذيك إن قلت اسمه أمام المرآة عدد مرات معين». تمسك الرواية بتلابيب المؤلف، وكأنما هى شبح مارى الدموية خرج من المرآة: «…خرجت لى من المرآة حاصرتنى فى الغرفة، سكبت النسكافيه على أوراقى، وعطلت المنبه فلم أستيقظ من النوم لأذهب إلى العمل، فلم أعرف كيف أهرب منها ولم أجد أمامى سوى هذا الكيبورد…. ربما أخدع هذه الرواية قليلًا، وقد أكذب عليها، ليس إلا خوفًا من المرايا التى تطاردنى فى كل مكان، مثل عناكب ميرفت».يمعن الواقع والخيال فى التماهى معًا، فلا يكف هاتف المؤلف عن الرنين «ويظهر عليه اسم بيبو». تسكن الرواية مؤلفها فتتخلل ثنايا واقعه. يحاول الكاتب فى هذا الفصل طرح تساؤلات حول ماهية الفن والكتابة وينتهى إلى أن «الفن قادر على جعل الحياة – بحكاياتها الغرائبية والعادية – أكثر جمالًا، والأهم: أكثر احتمالًا». ينتهى الفصل والمؤلف يلمح الشخصية المحورية فى الرواية تدور حول منزله بسيارة متهالكة. ويتساءل: «ما الذى يريده هذا المجنون الذى يدور حول منزلى بسيارة متهالكة”؟فى الفصل الرابع والأخير «سيارة» تحكم خيوط الوحدة شرنقتها حول «بيبو» الذى يجد نفسه فى سيارة ذات تحكم ذاتى، وحيدًا مع الببغاء «تأبط شرًا» والملكين، ليس معه سوى جهاز لاب توب وهاتفه المحمول، وبعض الملابس والطعام، يسير يحيط به الظلام الحالك من كل اتجاه فى نفق مظلم.  يسير تنسيق الفقرات عكسيًا فتبدأ من الفقرة (7) وتنتهى إلى الفقرة (1). يدور بالسيارة أيامًا وشهورًا وسنوات، يعجز أن يجد لحالته مغزى، يحاول الاتصال بالمؤلف، ثم يذهب يلف بالسيارة حول بيته. تمتد الأحاديث الهاتفية بينه وبين ميرفت. ينحصر عالم بيبو فى السيارة، ويبتدع لنفسه داخلها عالمًا موازيًا، يستغنى به عن الحياة خارجها، تعينه على ذلك أحاديث ميرفت الهاتفية التى لا تنقطع. ولكن هل ميرفت شخصية حقيقية فى حياة بيبو، أما أنها قرينه الأنثى الذى يؤنس وحدته ويجعله يسمع صوته؟ هل يملك الإنسان القوة للعيش مكتفيًا بوحدته؟ فجأة يدرك بيبو أن لا أحد على الطرف الآخر، «هل كان يتحدث كل هذا الوقت إلى نفسه؟».ينفرج السرد عن تيمته الرئيسية: «الوحدة» التى تحكم شرنقتها حول «بيبو»، فى أجواء كما الحلم، فلا يستطيع الهروب. يحاول أن يتصل بميرفت، لكنه يعثر على اسم المؤلف «محمد أبو زيد» فى قائمة الاتصالات، فيحاول الاتصال به، ولكنه لا يتلقى ردا على مكالماته، فيقرر الذهاب إلى منزله ، ولكنه يعجز عن الخروج من السيارة. فراح يدور حول المنزل بالسيارة بلا جدوى.ينتهى الفصل الرابع «السيارة» بالعودة إلى الفقرة (1). ينفلت غضب السيارة فتسير «بأقصى سرعتها فى طريق مظلم منزلق ممتلئ بالمطبات، وسط جو عاصف يتناوب بين البرق والرعد والمطر». تتوقف السيارة فجأة ويخرج بيبو منها، وكأنما بابها لم يُفتح من سنوات فعلقت به خيوط العنكبوت. يصادف مطعمًا راقيًا فيدخله، وهناك يطالعه وجه ميرفت تحمله إحدى النادلات، ولكنها لم تحضر إليه رغم انتظاره لها ساعات. «شعر أن… جرحه الذى حاول إغلاقه قد انفتح مرة أخرى لينزف بلا توقف، أن عنكبوتًا مجنونًا داخله يغزل خيوطًا حول أوردته ويزحف على كل جزء منه كى يكبله مرة أخرى. يتجه إلى البار آملا أن يجدها فيجد خيوط العنكبوت تحيط بكل شىء، وفجأة تهب عاصفة قوية تطيح بالمطعم. هرول خارجًا واختفى المطعم تحت العاصفة. ينهض بيبو بصعوبة، بينما تعصف برأسه «أسئلة حياته»، وهى نفسها الأسئلة التى يطرحها السرد وتشغل القارئ من البداية:”لماذا اختار له المؤلف أن يعمل فى مستشفى للمجانين، ما الضرورة الدرامية لذلك؟ هل أراد أن يوحى بجنونه؟ هل يعمل فى المستشفى أم أنه نزيل فيه هل شاهد ميرفت قبل قليل أم لا؟ هل هناك ميرفت أصلًا أم أنها من وحى خياله؟”ينتهى السرد بالسيارة تسير مسرعة فى طرق مغلقة تنفتح أمامها وأخرى مظلمة يشقها ضوء السيارة، تتلاشى كل الأشياء حوله ويشيب شعره ويهرم جسده ويتعرى من ملابسه ولكنه « لا يشعر بعريه، يشعر بملائكيته، بأنه تحول إلى مجرد روح تقود سيارة». فجأة تتفكك السيارة وتتلاشى وتختفى الأشياء من حوله، يصعد جسده إلى أعلى «عيونه مفتوحة بارتياح، على شفتيه ابتسامة، فى ذهنه تتردد جملة وحيدة… – حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية».ربما بهذه الجملة الخاتمة «حافظ على قلبك بعزيمة شاعر.. ثم اكتب رواية» يجيب الشاعر محمد أبو زيد على دهشة القارئ ويعتذر له عن متاهة السرد وأسئلته التى ظلت تتكاثف وتتعقد حتى النهاية، فهو شاعر يكتب رواية، ومن ثم جاءت روايته قصيدة مركبة ممتدة تتكاثف فيها الرؤى والإيحاءات، ويختلط الواقعى بالغرائبى فى عالم من الأحلام المتداخلة والمتشابكة…………….نشرتفي مجلة الإذاعة والتلفزيون: تاريخ النشر  ٢٠١٩/٠٨/٢٣

فضاء للغرابة خارج أسوار الحكاية

جمال القصاص

تبدو رواية «عنكبوت في القلب» للشاعر القاص محمد أبو زيد، بمثابة «مزرعة سردية»، يقلب فيها فضاء تربته الروائية، ما بين أقصى الخرافة والفانتازيا، وأقصى الحلم بعالم واقعي مشدود لفضاء الحرية والحب، كما يختبر في غبار هذه المزرعة شخوصه، عبر سيولة زمنية ومكانية متنوعة تتشكل تحت سقفها صراعاتهم الإنسانية الصغيرة، مع ذواتهم وعالمهم المحيط، وسط وجود محفوف دوماً بمغامرات لا تكف عن التجريب وابتكار حيل وألاعيب مغوية، تصل أحياناً إلى الضجر من الكتابة نفسها بوصفها لعبة محكومة بأطر ومواضعات ذات طبيعة خاصة، وخيارات حاسمة تتعلق بماهية النوع الأدبي، وهو ما لا يكترث به، محاولاً إيجاد حالة من التفاعل، يتبادل فيها الكاتب وأبطاله والقارئ الأدوار والأقنعة على مسرح النص، ما يجعله يقترب من المفاهيم والأجناس الأدبية الجديدة، التي أفرزتها التكنولوجيا بتطورها الهائل، وأثرت على شكل الكتابة القصصية والروائية على نحو خاص.
يمهد الكاتب لعالمه بومضات سردية تتكشف من خلالها عوالم شخوصه الأثيرة وطبيعتهم: «سامي» حفار القبور، و«المملوك» الوحيد الذي فر من مذبحة القلعة الشهيرة إبان حكم محمد على، و«تأبط شراً» أحد الشعراء الصعاليك المرموقين، والحكايات الطريفة المتضاربة التي تروى عن سر تسميته بهذا الاسم، في محاولة ضمنية لموازاة عالمه الروائي بالصعلكة، والتي يرى أن أهم ما يميزها: «أن تكون عدّاءً في صحراء ممتدة، لا يوجد لها خط نهاية للسباق، النهاية الوحيدة أن تلمس سطح السماء، أو تصل إلى البحر، ما لم تمت قبل بلوغ شاطئه».
إذن ثمة وعي مسبق باللعبة الروائية، ينهض أساساً على فكرة الانفصال – الاتصال، فالشخوص بمحمولاتها ورموزها تظهر لتختفي، ثم تعاود الكرة من جديد، كما أن الكاتب نفسه، يتدخل في أشواط معينة من السياق، ليعدل مسار اللعبة ويشارك فيها، وفق سلطته كراوٍ عليم، بل يهدد بالانتقام والسخرية من أبطاله، لكنه في داخله يحنو عليهم. وينجح تحت غواية هذه الوعي في اللعب معهم، ووضعهم في إطارات محددة، حتى أنه يجردهم من طبيعتهم البشرية، فيصير «سامي» و«المملوك» ملاكين صغيرين، يقبعان فوق كتفيه عند الضرورة، وفي لحظات مصيرية، ليحفظا لوجوده المادي الواقعي نوعاً من التوازن، حتى لا يسقط في الهوة ما بين الوهم والحقيقة، كما يصير تأبط شراً ببغاءً، يراقب الحكاية، ويعلق عليها أحياناً.
في مقابل ذلك، تظل علاقة بطلي الرواية «بيبو» و«ميرفت» تراوح ما بين الحضور والغياب، فرغم ولعه بها إلى حد الجنون أحياناً، إلا أنهما لا يقعان في الحب، بل يتحايلان عليه، كأنه أصبح جزءاً من لعبة كلاهما يمارسها على طريقته الخاصة، كما أن نقاط التشابه بينهما، من حيث النشأة في بيئة قروية، وإيثارهما العيش على هامش الحياة، وعدم التورط فيها، لا تفرز سوى النزوع إلى العزلة والوحدة، لكنها عزلة هشة تشبه بيت العنكبوت، إذن فلتكن اللعبة فضاءً خاصاً للتسلية وإزجاء وقت الفراغ.
فالبطل الذي يرتكب أعمالاً خارقة للعادة، ابن مدينة البرلس الساحلية المطلة على البحر (بوسط دلتا مصر)، يرفض حياة البحر مثل أفراد عائلته، ويقرر السفر إلى القاهرة ليكمل تعليمه الجامعي، ويلتحق بالعمل بمستشفى الأمراض العقلية والعصبية، بينما يحاصره قلبه ويصبح عبئاً على جسده، فيشق صدره وينزعه منه ببساطة شديدة، فمرة يضعه بكرتونة قديمة بالشرفة، بعد أن غمره في برطمان به بعض الماء، ونثر حوله حبات مبللة من القمح، ثم بعد أيام وبعد أن عشش العنكبوت على الكرتونة يعيده إلى موضعه بصدره، ومرة يفكر أن يلقيه في صندوق قمامة، لكنه يخشى أن يعثر عليه شرطي، فيتهم بجريمة القتل العمد، ومرة يحاصره بغلالة من الطين والإسمنت، يضعها على صدره، حتى يظل قابعاً في الداخل، لا يتمدد، ولا يشكل نتوءاً يخل بوضعية جسده.
و«ميرفت» وحيدة والديها الراحلين، خريجة كلية التجارة، لا تجد وسيلة لقتل العزلة سوى اصطياد أعشاش العنكبوت من أي مكان، ووضعها في زجاجات بلاستيكية ورعايتها، كأنها تعويض عن حالة اليتم التي تعيشها.
تقبع ميرفت في ذاكرة السرد كبطلة أسيرة للكاتب عاشت كرمز ودلالة في كتبه الشعرية، وها هي تجرب الحياة داخل نمط آخر من الكتابة أقل تكثيفاً واختزالاً، يسمح لها بالتمدد والغوص أكثر، سواءً في داخلها أو عبر الواقع المعيش. حيث تراقب بفطنة وجوهها المتعددة التي أدمنتها، فعلاوة عن كونها صيادة عنكبوت، فهي عازفة أكورديون، مدمنة عمل في المطاعم، لصة البنسات الملونة، حبذا الأزرق منها، مدمنة الأشياء الغريبة، حتى أنها أنشأت موقعاً على «فيسبوك» سمته «أشياء غريبة». كما أنها خلال عملها بالمطاعم، الذي لا يتجاوز ثلاثة أشهر في كل مطعم لم تكن تهتم بأي شيء آخر سوى أنها، وكما يقول الراوي (ص 116) واصفاً المشهد على هذه النحو: «لا يلفت انتباهها في الزبائن سوى جواربهم، بعد أن تقدم الطعام للزبون، تقف في ركن بعيد، وتتسلل نظراتها على الأرض، تنظر إلى الأحذية، ومن ورائها الجوارب. تعرف الآن كل أنواعها، لدرجة أنه من الممكن أن تؤلف موسوعة عنها تحمل اسم «المآرب في علم الجوارب»: هذا جوربه مخطط، وهذا قصير، وهذا رائحته تطارد المارة في الشارع، وهذا يرتدي صندلاً. آخر زبون لفت انتباهها بشدة، حتى إنها شعرت بالتعاطف معه، كان يرتدي جورباً من لونين مختلفين.
تتنوع هذه المطاردة بين بيبو وقلبه المتمرد وطائراته الورقية الملونة على مدار الرواية، لكنه في كل مرة تحاصره الهواجس والأسئلة نفسها، وكما يقول على لسان الراوي السارد: «سعادته بعودة قلبه لم تمنعه من السؤال: نعم عاد قلبي، لكني لم أحب أحداً بعد. أليس من المفترض أن يعود قلبي عندما أشعر بالحب؟ أم أنه يعود أولاً ثم أشعر بالحب بعد ذلك؟ شعر أن الأمر يشبه سؤال الدجاجة والبيضة، أيهما أولاً، فكف عن التفكير ورفع صوته منادياً عم ممدوح كي يحضر له شاياً بالحليب».
يحاول الكاتب أن يكسر نمطية فضائه المتخيل، وسد فجوة تناقضاته، وذلك باللجوء إلى علامات وإشارات تهكمية خاطفة ذات مغزى سياسي واجتماعي، كما يلجأ لتناصات بينية يذكر فيها أسماء بعض أصدقائه من الكُتّاب والكاتبات، في مشاهد تتعلق بعملية كتابة الرواية، وتوسيع آفاق نصه السردي، وإضفاء قدر من الحيوية على مساراته وغرابة بطله «بيبو»، الذي أصبح مدمناً للمشي في أحذية الآخرين القديمة، فيفتش عنها في سلال القمامة، ويتوهم أنها تقوده إلى معرفة سيرة حياة أصحابها، سواء كانوا موتى أو أحياء، تيمناً بعبارة التقطها من الممثل الأميركي جريجوري بيك في أحد أفلامه تقول: «إذا أردت أن تعرف رجلاً امش في حذائه».
تمتد الغرابة بتراوحات متباينة إلى الشخوص الأخرى، سواء المتخيلة، المستدعاة من فضاء السينما العالمية وأفلامها الشهيرة، بخاصة شخصية «سنو وايت» أحد أشهر أبطال «والت ديزني» في فيلمه الكرتوني الشهير «سنو وايت والأقزام السبعة» فهي صديقة بيبو وزميلته بالجامعة، يرافقها في رحلة جامعية إلى أسوان، كما تذهب معه إلى السينما، وتسدي إليه نصائح الحب لعلاج قلبه الراكد في مكانه، حتى لا يصبح مثل قلبها التي تعاني من مزق ونتف تتساقط منه يومياً حول سريرها. كذلك الممثلتان الفرنسية أودري تاتو، بطلة فيلم «شيفرة دافنشي»، والبريطانية كيت وينسلت، بطلة فيلم «تايتنك»، اللتان يتعامل معهما بيبو، باعتبارهما زميلتين له في العمل، يتبادل معهما الدعابة والمزاح، كما يلتقي بهما على مقاهي وسط البلد. أيضاً هناك أصدقاؤه بالعمل: عبد الله هدهد، الذي يذهب إلى العمل طائراً متفادياً الزحام و«إتش» صاحب «جمعية جامعي أعقاب السجائر الخيرية»، وعلاء الدين، صاحب «الفانوس السحري»، وغيرهم المسكنون، بحالة من خفة الغرابة وألفتها.
يقبض الكاتب الراوي على شخوصه وكائناته، ويحركها من خلف ستار الحكي كدمي من «الماريونت»، لكن بعضها يصمد في اللعبة ويصعد، وبعضها يتحول إلى نتوء في جسد النص، بينما تبدو الأشياء نفسها، وكأنها ظلال لوجود شبحي داخل إطار محدد. برزت فيه الهيمنة للراوي السارد، على حساب حيوات المروي عنهم. ما يجعلنا إزاء لعبة سردية مشدودة أكثر لألاعيب الميديا.
لقد راهن أبو زيد في هذه الرواية على أقصى طاقات التجريب والمغامرة، لكن أشياء كثيرة مهمة لم يستطع أن يستثمرها، بشكل أكثر فعالية، فمثلاً لم نر نمواً درامياً للعزلة، سواء في إثارة مشاغل الجسد وحيواته الحميمة، خصوصاً في حياة بطلي الرواية اللذين اختارا العزلة موقفاً من الوجود، وفي التعاطي مع أسئلة الوجود بمفهوم وروح أبعد من تداعيات لعبة ترنحت ما بين التشابه والتكرار في النص.

…………………

*نشر في جريدة الشرق الأوسط